Sunday, September 29, 2019

التصنيع في العالم العربي من محمّد علي في مصر إلى البعث في الشام


علّ الفصل العاشر في كتاب "دولة الهمجيّة" أكثر مقالات الكتاب إثارة للاهتمام. يقارن المؤلّف الراحل Michel Seurat هنا بين نموذجين اقتصادييّن متميّزين للتحديث أوّلهما نموذج محمّد علي -الذي يعتبره كثيرون باني مصر الحديثة- وثانيهما نموذج الخديوي اسماعيل. هدف النمطين بالنتيجة واحد ألا وهو الارتقاء بمصر إلى مصاف الغرب ومواجهة تحدّي أوروبا في زمن اعتقد مالكو زمام الأمور فيه أنّ الوسيلة المثلى لمواجهة هذا التحدّي تكمن في اتّباع أسباب نجاحه الاقتصاديّة والثقافيّة والعلميّة والسياسيّة العسكريّة وليس إعادة عقارب الساعة ألف سنة إلى الوراء لتقليد السلف الصالح.   

اعتمد محمّد علي نموذج Colbert (وزير لويس الرابع عشر عاهل فرنسا الملقّب le roi soleil  "الملك الشمس") في احتكار الدولة للصناعة وعموماً اتّبع والي مصر المبادىء الثلاثة التالية في نظامه الاقتصادي:

- الأوّل: تطوير الزراعة باتّجاه محصول وحيد مخصّص للتصدير ألا وهو القطن أو الذهب الأبيض. 
-الثاني: إنشاء قطاع صناعي تحتكره الدولة كضرورة ماسّة لمواجهة الغرب بغضّ النظر عن الاعتبارات الاقتصاديّة والنفعيّة في بلد لا تزال الزراعة فيه مصدر الثروة الأوّل والأخير. 
- الثالث: بناء جيش قوي -بمعونة فرنسا- أثبت نفسه في عدّة ميادين وكاد أن يستولي على القسطنطينيّة لولا تدخّل القوى العظمى.   

هزم محمّد علي بالنتيجة وأجبر على الانسحاب من سوريا تحت الضغط الأوروبي ويمكن اعتبار عام ١٨٤٠ بداية نهاية الركيزة الثالثة في نظامه أي الجيش القوي أمّا الركيزة الثانية الصناعيّة فقد انتهت مع المعاهدة الإنجليزيّة العثمانيّة عام ١٨٣٨ التي امتدّت لتشمل مصر عام ١٨٤٢ وألغي بموجبها الاحتكار والنظام الجمركي الذي حمى الصناعة المحليّة من منافسة البضائع الأوروبيّة الأرخص ثمناً والموازية على الأقلّ من ناحية الجودة. 

إذاً بقي من عهد محمّد علي لحفيده اسماعيل باشا أو الخديوي اسماعيل الركيزة الأولى الزراعيّة المتمثّلة بالقطن وكانت كافية في البداية وساعدها ارتفاع أسعار هذه السلعة خلال الحرب الأهليّة الأمريكيّة ١٨٦١-١٨٦٥ عتدما انقطع تصدير القطن الأمريكي إلى المصانع الأوروبيّة. استثمر اسماعيل باشا في البنية التحتيّة فشقّ الأقنية وسكك الحديد وقناة السويس وخطوط التلغراف معتمداً على ثروة بلده الزراعيّة من جهة وعلى قروض أوروبيّة ضخمة بربا فاحش من جهة ثانية في سياسة انفتاح أدّت بالنتيجة إلى إشهار إفلاس مصر عام ١٨٧٩ وفقدانها الاستقلال بعدها بفترة وجيزة. هنا تجدر الإشارة أنّ الإمبراطوريّة العثمانيّة مرّت بتجربة مماثلة وأفلست قبل مصر عام ١٨٧٥ وإن حمتها منافسة القوى الأوروبيّة بعضها مع البعض الآخر من الاحتلال المباشر. 

هناك فرق أساسي بين التصنيع في الغرب ونظيره في الشرق الأدنى إذ في الحالة الثانية فرضته الدولة من الأعلى كمشروع سياسي-عسكري بالدرجة الأولى. فلننظر الآن إلى حالة سوريا البعث في النصف الثاني من القرن العشرين وهي مماثلة بشكل أو بآخر لوضع مصر جمال عبد الناصر وكلاهما يتبعان نموذج محمّد علي "الاشتراكي" مقارنة مع نموذج مصر اسماعيل باشا وأنور السادات "الرأسمالي". كان لا بدّ للبعث في باكورة عهده أن يثبت نفسه بسياسات يساريّة هدف منها أمين الحافظ إلى مواجهة خصومه من الطبقة الحاكمة "البورجوازيّة" التي أطاح بها أوّلاً  ومنافسة عبد الناصر زعيم العالم العربي التقدّمي وقتها ثانياً والتصدّي للمزاودات ضمن حزبه ثالثاً. 

وجّهت القطاع الصناعي السوري اعتبارات سياسيّة غلبت فيها المحسوبيّة والأجهزة الإداريّة الطفيليّة على قطاع الانتاج واعتمد تبرير معامل القطاع العامّ على الإنفاق كوسيلة لتعزيز سلطة الدولة وتنفيع مؤيّديها. زادت صناعات "العزّة والكرامة" من مهابة الدولة وفخرها "بمنجزاتها" رغم الحسابات التي أظهرت أنّ القطاع العامّ الصناعي -على عكس القطاع الزراعي- يستهلك الأموال في مشاريع مكلفة ولا يتنج فائضاً ماليّاً خصوصاً أنّ الصناعة -أيضاً بخلاف الزراعة- مرتبطة بالعون الخارجي وبالتالي الإنفاق عليها أكثر بكثير على الأقلّ بالنسبة لمساهمتها في الدخل القومي. 

ختاماً يحسن عدم المبالغة في أهميّة التصنيع في مصر تحت محمّد علي إذ بقي مصدر الثروة الأساسي الأرض الزراعيّة وكانت الصناعة ظاهرة هامشيّة ماليّاً واجتماعيّاً ومن هذه الناحية لا يوجد فرق كبير بين نموذجه ونموذج خلفه الخديوي اسماعيل.  يمكن إسقاط نفس المحاكمة على بدايات عهد البعث في سوريا ولكن الصعود المتعاظم لدور البترول غيّر المعادلة جذريّاً في الربع الأخير من القرن الماضي وعزّز سلطة الدولة في الشرق الأدنى في البلاد المنتجة كما في البلاد التي تلقّت معونات منها مباشرة أو بشكل غير مباشر. 



Michel Seurat. Létat de barbarie. Edition du Seuil 1989. 

No comments:

Post a Comment