Friday, December 27, 2019

دمشق بين نموذج باب الحارة وتأسيس الجامعة السوريّة


يقابل مسلسل باب الحارة الشهير بالهزء والسخرية على كثير من منصّات وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة كصورة مشوّهة عن المجتمع الشامي عموماً والبيتي-النسائي خصوصاً ويعزّز المتهكّمون رأيهم بمقالات وصور مختارة بعناية فائقة لعدد من رجالات وسيّدات سوريا في أبهى حلّة يمثّلون ويمثّلن البلاد كما كانت فعلاً في عهد الانتداب الفرنسي حسب وجهة نظرهم.   

المشكلة في هذا التحليل لا تتعلّق بباب الحارة الذي لا يتعدّى كونه مبالغة دراميّة بهدف الإثارة -بغضّ النظر عن درجة النجاح في تحقيق هذا الهدف- لا تمثّل دمشق أكثر ممّا تمثّل أفلام هاليوود المجتمع الأمريكي. الموضوع بالأحرى طريقة الردّ على نموذج باب الحارة بنموذج بديل لا يقلّ عنه زيفاً يرمي إلى إظهار سيّدات كنازك العابد وماري عجمي مع مجموعة صغيرة من أغنى أغنياء سوريا كآل القوّتلي واليوسف والعظم ومردم بك كنموذج للمجتمع السوري في وقت كانت فيه غالبيّة هذا المجتمع أميّة خصوصاً لدى النساء وفي الأرياف عندما كان معظم السوريّين من أبناء الأرياف. 

كتب محمّد كرد علي عام ١٩٢١ تقريراً عن وضع المدارس والتعليم قدّر فيه عدد سكّان دمشق (أي دولة دمشق التي أسّسها الانتداب الفرنسي عام ١٩٢٠ وليس المدينة) بحوالي المليون نسبة الأمييّن بينهم ٩٧%. تبدوا هذه النسبة لي مبالغاً بها ومع ذلك لا أعتقد بوجود خلاف جدّي على تفشّي الأميّة وقتها وحتّى المتعلّمين اقتصرت معارف معظمهم على القراءة والكتابة والحساب والحدّ الأدنى المطلوب لإدارة عمل ما أو تأدية الفرائض الدينيّة. 

تعرّضنا في مكان آخر -بفضل الدكتور عبد الكريم رافق- للمدارس بأنواعها في مطلع القرن الماضي ونأتي الآن إلى معضلة فرز المؤهّلين للالتحاق بالجامعة السوريّة من طلبة التعليم العالي ومن هنا أهميّة صدور قانون البكالوريا السوريّة في الأوّل من تشرين أوّل عام ١٩٢٨. تألّفت هذه البكالوريا من قسمين يمتحن فيهما الطالب كتابيّاً وشفهيّاً يضمّ أوّلهما شعبتين إحداهما للآداب والثانية للعلوم وثانيهما شعبة للفلسفة وثانية للرياضيّات. صدر قرار عن وزير المعارف الفرنسيّة في السادس والعشرين من تشرين أوّل عام ١٩٣١ بمنح التعادل للبكالوريا السوريّة مع الفرنسيّة ممّا يخوّل حاملها متابعة دروسه في الجامعات الفرنسيّة إذا شاء. 

تتلوا البكالوريا baccalauréat الكفاءة brevet وقبلها الابتدائيّة certificat. عزّز اعتماد هذا النظام التدريس بالعربيّة ووحدة التعليم في سوريا بشموله كافّة المدارس والطوائف والطبقات الاجتماعيّة. استفادت الجامعة من تطبيق نظام البكالوريا الذي حسّن نوعيّة المرشّحين من طلبة التعليم العالي ولكنّها في نفس الوقت خسرت الكثير من استقلاليّتها نتيجة لإلحاقها بوزارة المعارف ممّا أدّى إلى خلاف على موازنتها كما حدث عام ١٩٢٩ عندما ارتأى وزير المعارف محمّد كرد علي تحويل كميّة معيّنة من الأموال من مخصّصات الجامعة لإنشاء مدارس ابتدائيّة كخطوة على طريق التعليم الإجباري. أشارت صحيفة أصداء دمشق الفرنسيّة Les Échos de Damas وقتها إلى خلاف بين رئيس الجامعة الدكتور رضا سعيد ووزير المعارف محمّد كرد علي في هذا الصدد. 

ساهم فصل المجمع العلمي والمتحف عن الجامعة (قرار في الخامس عشر من آذار عام ١٩٢٥ بإعطاء المزيد من الصلاحيات لوزير المعارف الذي يمثّل السلطة السياسيّة العائدة في خاتمة المطاف للمندوب السامي على حساب مجلس الجامعة. 

ما كان لمعضلة شائكة كهذه أن تحلّ بسرعة ونعومة إذ حصل خلاف مماثل في جوهره إن لم يكن في تفاصيله بين الحكومة ممثلّة بالمعارف من جهة,  وبين الجامعة ممثّلة بالدكتور حسني سبح رئيس الجامعة وعميد المعهد الطبّي في مطلع عهد الاستقلال من جهة ثانية. أدّى هذا الخلاف إلى تسريحه في آب ١٩٤٦ وكانت هذه سابقة لتدخّل السلطة التنفيذيّة في شؤون الجامعة التي احترم الفرنسيّون استقلاليّتها حتّى الجلاء. تمّ احتواء الموضوع لاحقاً وأعيد الدكتور سبح إلى منصبه في رئاسة الجامعة في تشرين ثاني ١٩٤٧.


الصور المرفقة من الأرشيف الفرنسي في مدينة Nantes وتعود لعام ١٩٢٦ على وجه التقريب.



للحديث بقيّة.  







No comments:

Post a Comment