عاتبني البعض من المتابعين الكرام أكثر من مرّة على نقل آراء المستشرقين السلبيّة عن الشرقييّن والتراث الشرقي. ردّي أنّ الرأي سلباً كان أم إيجاباً هو في نهاية المطاف رأي وأنّ الأمانة العلميّة تقتضي أيضاً الإشارة إلى ما لا يعجبنا وليس فقط ما نستسيغه ويحلو لنا سماعه. وسائل التواصل الاجتماعي تطفح بالثناء والإطراء الذي تعطّف الغربيّون وتنازلوا (على سبيل المثال Lamartine و Twain و Le Bon) بإغداقه على الشرق - مع تجاهل شبه تامّ لكلّ ما هو مسيء في كتابات نفس المؤلّفين - وكأنّ الشرقييّنَ أطفالٌ ينتظرون كلمة حلوة من أمّهاتم وآبائهم أو طلّاب ابتدائي يتصيّدون المرحى من أساتذتهم. خيرٌ وأبقى لو اطّلعنا على إسهام المستشرقين العلمي الغزير ودرسناه واتّخذنا موقفاً حياديّاً من مديحهم أو مذمّتهم وتبقى الحقائق حقائق والآراء مجرّد آراء لا تقدّم ولا تؤخّر.
عذراً عن هذه المقدّمة قبل متابعة التعريب عن Dussaud وأبدأ باقتباسين للعالِم الفرنسي:
الاقتباس الأوّل عن الفارس d"Arvieux: "هذا الجامع أحد أجمل مباني الإمبراطوريّة العثمانيّة وهو مشيّدٌ على طراز كنائسنا. لم يغيّر فيه الأتراك شيئاً على الإطلاق من الناحية العمليّة" (١).
الاقتباس الثاني عن Renan (٢): "دمشق - مثلها في ذلك مثل أنطاكيا - فقيرةٌ بالنقوش الكتابيّة والأوابد القديمة إلى درجةٍ يرثى لها. الجامع الكبير في دمشق شديد الأهميّة بالنسبة للآثار المسيحيّة".
استولى الخليفة الوليد بن عبد الملك على البناء بكامله في مطلع القرن الثامن للميلاد وأزال المذبح المسيحي بطبيعة الحال وأضاف زخارفَ غنيّةً (٣) وفي نفس الوقت أجرى بعض التعديلات أهمّها إضافة قبّة (٤). تطلّب الوصول إلى هذا الاستقراء كمّاً لا بأس به من التحرّيات. بناة الجامع مسيحيّون ونحن لا نقصد بهذا القول أنّ الوليد استعمل معمارييّن مسيحييّن بل التوكيد على هويّة مَن خطّطَ وعَمَّرَ الكنيسة الملكيّة القديمة. توصّلنا إلى هذه النتيجة منذ عام ١٩٠١ بعد الأبحاث التي أجريناها على جامع دمشق الكبير رغم تحفّظ مؤرّخيّ الفنّ عليها.
يعود الخطأ الذي أعطى الفضل في مخطّط المبنى ككلّ إلى العهد الإسلامي - والذي تمخّض عن تشويش تاريخ الحرم إلى أبعد الحدود - إلى هفوة Dickie التي صحّحها Wulzinger و Watzinger. لم يستطع Dickie تفحّص واجهة الجدار الجنوبي للجامع بدقّةٍ كافية نظراً للأبنية الدخيلة المجاورة وبالتالي أرجع القسم السفلي من سور الهيكل péribole القديم إلى العهد البيزنطي واستنتج بناءً على ذلك أنّ القسم العلوي لهذا الجدار، والمماثل في أسلوب تنضيده appareil للمجاز المعترض، لا بدّ أن يعود إلى الوليد. يترتّب على ذلك أنّ إنجاز الوليد لا يقتصر على بناء قبّة النسر بل يشمل المجاز المعترض والفضل بالتالي للخليفة الأموي في المخطّط كما نعرفه اليوم.
واقع الأمر أنّ قاعدة الجدار القبلي رومانيّة دون ذرّة من الشكّ وهي مماثلة للجدار الغربي الذي لا يزال سليماً تقريباً أمّا القسم العلوي من الجدار الجنوبي + المجاز المعترض فبيزنطيّة باستثناء بعض الترميمات وأهمّها للقسم الغربي من الجدار. تعود هذه الترميمات إلى العام ١٣٢٨ للميلاد (٥) حسب المؤلّفين العرب.
بعبارة ثانية وباختصار اقتصر إسهام الوليد - حسب Dussaud - على بناء قبّة النسر مع "زخرفة غنيّة" وكلّ ما عدا ذلك روماني أو بيزنطي أو سابق للإسلام.
يتبع.
(١) "ترك"، "عرب"، مسلمين"، "سراسنة" مصطلحات مترادفة لدى كثير من الرحّالة الغربييّن قديماً مع التحفّظ أنّ "الأتراك" بالنسبة لهم كانوا غالباً سكّان المدن بينما "العرب" أهل البادية.
(٢) لم أنجح في العثور على أصل الاقتباس في الكتاب الذي أشار إليه Dussaud.
(٣) لم يذكر Dussaud الفسيفساء في مقاله على الإطلاق وإن وجب التنويه أنّه كتب قبل كشفها على يد de Lorey. الفسيفساء بالطبع من أهمّ الروائع التي بقيت من عهد الوليد.
(٤) قبّة النسر فوق المجاز المعترض الذي اعتبره Dussaud بيزنطيّاً كما رأينا.
(٥) العهد المملوكي ونيابة تنكز.
René Dussaud. Le temple de Jupiter Damascénien et ses transformations aux époques chrétienne et musulmane. Syria 1922 (p. 219-250).
No comments:
Post a Comment