جميع شعوب العالم تفخر بجيوشها وغزواتها وفتوحاتها وتعتبرها خيراً وبركةً وتطنب وتسهب في تسبيح المغلوبين بحمد المنتصرين وشكرهم على أفعالهم وأفضالهم. هذه الأقاصيص يتشرّبها اليافعين منذ نعومة أظفارهم وينتهي بهم المطاف إلى تصديقها بحذافيرها وتبنّيها والاعتزاز بها وترديدها واجترارها والتكرار كما يقولون يعلّم الشطّار.
مثال اليوم قصّة مصوّرة من أربع صفحات نُشِرَت في العدد الثامن والأربعين من النسخة البلجيكيّة لمجلّة tintin الصادرة في الثاني من كانون أوّل ديسمبر عام ١٩٥٩. الفنّان والكاتب Fernand Cheneval بلجيكي - سويسري أمّا البطل فهو ملك بلجيكا الراحل Léopold الثاني "الفاتح بمفرده" كما يقول العنوان. سأحاول الاختصار قدر الإمكان دون الإخلال بمغزى الرواية وعِبْرَتِها من وجهة نظر المؤلّف.
نرى في الصورتين المرفقتين أعلاه Léopold الفتى في حوارٍ مع أبيه ملك بلجيكا Léopold الأوّل الذي يبدوا حزيناً مهيض الجناح يتحسّر على صِغَرِ بلده وصعوبة توفير الغذاء إلى سكّانه الذين يتزايد عددهم باضطّراد. سأل اليافع والده: "ألا يوجد أراضٍ لم تُسْتَثمر بعد في آسيا وإفريقيا؟" فأجابه الأب: "بالتأكيد يا بنيّ بيد أنّ السلطات المحليّة لا توفّر الحماية للرجل الأبيض من جهة ومن جهةٍ ثانية استعمرت بلادٌ غيرنا كثيراً من هذه الأقاليم".
مرّت الأيّام وشبّ الأمير عن الطوق ومارس الترحال ليزور مصر أثناء شقّ قناة السويس (مجموعة الصور أعلاه) حيث تعرّف على Ferdinand de Lesseps ولفت نظره تفاني زنجيّةٍ شابّة في خدمة هذا الأخير الذي شرح له أنّه أنقذها من تجّار العبيد (نراها في إحدى الصور راكعةً أمام الفرنسي تتوسّل إليه ويجري ورائها النخّاس ملوّحاً بسوطِهِ). الفتاة الصغيرة - كما أخبر de Lesseps صديقه الزائر البلجيكي - من الكونغو قتل تجّار العبيد أباها وسبوها مع أمّها التي ماتت في الصحراء. استنتج Léopold دون عناء أنّ شعوب الكونغو سترحّب أيّ ترحاب بمن يأتي ليخلّصهم من تجّار العبيد والبؤس والشقاء الذي يعيشون فيه ويرزحون تحت نيرِهِ.
تُوِّجَ Léopold الثاني ملكاً على الكونغو بعد وفاة أبيه عام ١٨٦٥ ونراه في الصورة الملحقة يحاضر في جمعٍٍ من المستكشفين والجغرافييّن من كافّة أنحاء العالم بهدف دراسة كيفيّة "زرع عَلَم الحضارة في قلب إفريقيا وإنهاء الاستغلال البشع للزنوج".
لم يلقَ نداء الملك النبيل الاستجابة المأمولة واضطّر بالتالي إلى اللجوء إلى وسائله الخاصّة ومحاولة إقناع المموّلين والمستثمرين. كُلِّلَت جهود Léopold بالنجاح وشراء "الحقوق السياديّة" من الزعماء السود ممّا أدّى إلى "تغلغلٍ سلميٍّ بكلّ ما في الكلمة من معنى" في الكونغو.
مع تقدّمِهِ في السنّ، ناء الملك تحت كلكل العبء الثقيل في إفريقيا وأصبح "يرتدي الثياب المهترئة ويفرض التقشّف على طبّاخيه" وبالنتيجة "أورث الكونغو إلى بلجيكا" عام ١٨٨٩ التي تبنّته كالأمّ الحنون وشنّت حرباً لا هوادة فيها على تجّار العبيد لتهزمهم تماماً بحلول ١٨٩٩.
وهكذا، "بفضل Léopold الثاني وثلاثة أرباع القرن من النشاط الأوروپي أصبح الكونغو بإجماع الآراء أحد أكثر أقاليم العالم الأسود ازدهاراً".
"ليوپولد الثاني: حياةٌ من العمل الفردي الذي لا تزال الملايين تشعر بمنافعه العصيّة على التقدير".
هكذا ختم Cheneval روايته الرومانسيّة العذبة بيد أنّ الواقع أقلّ شاعريّةً. صحيحٌ أنّ البلجيكييّن أدخلوا التقنيّة الحديثة إلى الكونغو ولكن أهدافهم كانت نفعيّة بالدرجة الأولى كما هو الحال في جميع الحالات المماثلة في الشرق والغرب. هلك الملايين من سكّان الكونغو تحت الحكم الأوروپي "المستنير" وهناك من يحمّل Léopold مسؤوليّة إبادة جماعيّة.
No comments:
Post a Comment