ليس تحقيق وقراءة الكتابات التاريخيّة بمتناول الهواة حتّى ولو كانت بالعربيّة. زوّدنا الدكتور طلال العقيلي، في كتابه عن الأموي، مشكوراً برسوم ونصوص كتابات الجامع العربيّة بالتفصيل ولكنّه لم يتطرّق إلى الكتابات اليونانيّة الأقدم منها على الإطلاق رغم أنّها معروفة وموثّقة في عدّة أبحاث. مع الأسف الشديد معظم المصادر التي نجحت بالعثور عليها تدرج النصّ اليوناني وتعلّق عليه دون أن تكلّف نفسها عناء تزويد القارئ بترجمة إلى الإنجليزيّة أو الفرنسيّة أو إحدى اللغات المعاصرة. السبب أنّ هذه المراجع أكاديميّة موجّهة للأكاديمييّن وتفترض سلفاً أنّ قرّائها ملمّين باللغة اليونانيّة القديمة.
أنتقل بعد هذه المقدّمة إلى تعريب النصّ المتعلّق بكتابات الهيكل عن Dussaud مع عيّنة من النقوش عن Wulzinger و Watzinger. بإمكان المهتمّين الرجوع إلى النشرة الربعيّة لصندوق اكتشاف فلسطين وما كتبه Hanauer و Jalabert في هذا الصدد. أودّ هنا التنويه أنّ التواريخ التي اتّفق عليها جميع هؤلاء العلماء خاطئة وأنّ الخطأ مردّه اعتقادهم أنّ النقوش الكتابيّة المتوافرة اعتمدت تقويم پومپي. سأعود إلى هذه النقطة بالتفصيل لاحقاً وبانتظار ذلك فلنقرأ ما كتبه Dussaud:
تزوّدنا بضعة نقوشٍ كتابيّةٍ يونانيّة بمعلومات قيّمة عن أعمال البناء (١) . يحدّد أحدها عام ٢٦٤ - ٢٦٥ للميلاد تاريخاً لإنجاز البرج الشمالي الشرقي لجدار الحرم ومن المحتمل أنّه يحدّد أيضاً نهاية آخر أعمال إنشاء هذا السور péribole. رفعنا في الماضي أحرفاً يونانيّةً داخل البرجين الشمالي الشرقي والجنوبي الغربي اعتقدنا في البداية أنّها تعود إلى القرن الرابع الميلادي ولكنّنا الآن نعتقد أنّها تنتمي بالأحرى إلى القرن الثالث (٢). يذكر نصّ من عام ٢٨٦ - ٢٨٧ بناء قسم من الجدار الشرقي للسوق العتيق، شمال الباب المفتوح في هذا الجدار. نعتقد أنّ هذا البناء يعود إلى سخاء الإمبراطور ديوكليتيان الذي أقام في سوريّا عام ٢٨٦. بدأ إنشاء الغامّا عام ٣٣٩ - ٣٤٠ وهي حسب Wulzinger و Watzinger، الإضافة يشكل هذا الحرف اليوناني Γ إلى السوق.
إذاً أُنْجِزَ بناء الهيكل والسوق القديم - باستثناء الغامّا - في النصف الثاني من القرن الثالث للميلاد. ماذا عن تاريخ بداية أعمال البناء؟
افترض Spiers و Dickie أنّ سور الحرم péribole يعود إلى نهاية العصر السلوقي بدلالة شكل تيجان الأعمدة الجداريّة pilastres المصريّة النموذج gorge égyptienne. رفض السيّدان Wulzinger و Watzinger هذا الرأي وأفادا أنّ البناء إجمالاً متجانس ويعود للعهد الروماني الإمبراطوري. نلاحظ أنّ البوّابة المثلّثة الجنوبيّة لسور الهيكل تتبع نفس طراز البّوابتين المهيبتين propylée الشرقيّة والغربيّة لجدار السوق القديم الخارجي وتاريخ البناء يعود على الأرجح إلى عهد سپتيموس سيڤيروس (١٩٣ - ٢١١) أو كاراكالّا (٢١١ - ٢١٧). من المعقول أنّ هيكل téménos سوق وادي بردى (Abila de Lysanias)، الذي رأيناه على نقد كاراكالّا، بني على طراز هيكل دمشق وبالتالي لدينا ما يشير إلى ملك هذا الإمبراطور كأحدث تاريخ ممكن للعمار. لا ريب أنّ أشغال السور والأبراج استغرقت فترةً طويلةً.
يبدوا لنا أنّ العالمين الألمانيّن نجحا في إرجاع فضل ابتكار المجمّع، أي الهيكل والسور والسوق، إلى معماري واحد. يصادف الزائر الآتي من الشرق عبر بوّابة السوق مشهداً مهيباً إلى أبعد الحدود: بوّابة الهيكل والجانب الشرقي من سوره المحيط على جانبيها كالأجنحة نهايةً بأبراج الزوايا المربّعة. يمثّل باب جيرون اليوم هذا المدخل البديع. التفّ رواقٌ معمّدٌ colonnade قديماً حول هذا البناء الفسيح داخل السور الخارجي. ليس الجناح الغربي من السوق متناظراً مع الشرقي بيد أنّ هذ الخلل يختفي تماماً وراء كتلة سور الهيكل.
(١) جمع Jalabert إثنا عشر نصّاً في البيان الربعي لصندوق اكتشاف فلسطين الصادر عام ١٩١٢ (بدايةً من الصفحة ١٥٠).
(٢) Wulzinger و Watzinger الجزء الأوّل، الصفحة السادسة، الحاشية الأولى.
No comments:
Post a Comment