Tuesday, November 23, 2021

الذهب الأسود


لدينا اليوم ٢٤ قصّة أو "ألبوم" لبطل الروايات المصوّرة البلجيكي الذائع الصيت Tintin صدر أوّلها "في بلاد السوفييت" عام ١٩٣٠ وآخرها "فنّ الألفبائيّة" ناقصاً عام ١٩٨٦ بعد موت الفنّان Georges Remi (المعروف تحت اسم Hergé) بثلاث سنوات. نجحت السلسلة نجاحاً منقطع النظير لدى الشبيبة على مستوى العالم وكان من الممكن أن تستمرّ إلى اليوم لولا وصيّة Hergé القاطعة أن لا يرسم Tintin أحد بعده. 


ترجمت ألبومات Tintin إلى العديد من اللغات وتمّ تعريب معظمها وكانت مجلّة سمير المصريّة أوّل من باشر هذا التعريب قبل ستّين عاماّ. عدّل الناشر عدداً من هذه الألبومات على مرّ السنوات ولعدّة أسباب منها ما تعلّق بتحسين الرسوم وتلوين القصص التي نشرت أصلاً بالأبيض والأسود ومنها الشعور بضرورة تلطيف النزعات العنصريّة فيها (كما هو واضح لكلّ من قرأ "في الكونغو" قبل وبعد التنقيح). استعان Hergé - أحد روّاد "الخطّ الواضح" أو بالفرنسيّة ligne claire - بعدد من الفنّانين لإعادة رسم رواياته منهم صديقه الموهوب Edgard Pierre Jacobs وتلميذه Bob de Moor. الإثنان فنّانان مبدعان بدلالة رسومهما وكتاباتهما الخاصّة. 


موضوع اليوم الألبوم الخامس عشر لتان تان "الذهب الأسود". لم أقرأ هذه القصّة بالعربيّة ولا أعلم إذا كانت قد عرّبت على الإطلاق خصوصاً بشكلها الأصلي الذي رأى النور عام ١٩٥٠. عدّلت الرواية - الحوار والرسوم - تعديلاً جذريّاً عام ١٩٧١ وكان هذا التعديل الأخير مراعاةً لحساسيّات سياسيّة من أكثر من جانب. ما يباع اليوم إذاً القصّة بحلّتها الجديدة التي تعود لمطلع سبعينات القرن الماضي وليس الأصل وللتوكيد خضع "الذهب الأسود" للمراجعة والتنقيح كما لم يخضع أي ألبوم آخر للفنّان. 


بدأت قصّة "الذهب الأسود" في الظهور تباعاً على حلقات في مجلّة Petit Vingtième اعتباراً من الثامن والعشرين من أيلول عام ١٩٣٩ ولكنّها توقّفت مع حلقة التاسع من أيّار عام ١٩٤٠ بسبب ظروف الحرب ولم تعاود الظهور حتّى السادس عشر من أيلول عام ١٩٤٨ في مجلّة Tintin الأسبوعيّة. انجزت القصّة في الثالث والعشرين من شباط عام ١٩٥٠ وصدرت في ألبوم بشكلها الأصلي لاحقاً في نفس العام. 


سيتّضح من خلال الأسطر التالية والصور الملحقة لماذا عدّلت هذه القصّة أكثر بكثير من أي رواية لتان تان. مسرح الأحداث فلسطين في زمن الانتداب البريطاني (الذي تغيّر اسمها عام ١٩٧١ إلى "خمد" Khemed) وتمتزج فيها سياسات البترول والاستيطان الصهيوني والنزاعات القبليّة العربيّة. من البدهي أنّني لن أتعرّض لمسار القصّة ولا حتّى لخطوط الحبكة العريضة وأقتصر على لفت الانتباه إلى بعض ملامحها التي تجعل قبولها من أي دار نشر في الغرب اليوم متعذّراً أو يكاد. 





وصل Tintin إلى ميناء حيفا ونراه في المجموعة الأولى من الصور محاطاً بالبحّارة البريطانييّن ووراءه التوأمان Dupond & Dupont وهنا يتدخّل الإرهابيّون اليهود من منظّمة Irgoun فيقومون بتحريره (أو اختطافه إذا شئنا) من قبضة الإنجليز اعتقاداً منهم أنّه أحد رجالهم. تتبع الطريقة التي رسم فيها Hergé اليهود نمطيّات النصف الأوّل من القرن العشرين (قبل أن يتبنّاها كاريكاتوريّو العرب): بشرة بيضاء وشعر أسود وأنوف معقوفة. 





نجحت سلطات الانتداب بالقبض على اليهود المنفّذين للعمليّة ونرى ثلاثة منهم مكبّلين بالأصفاد قيد الاستجواب في مجموعة الصور الثانية أمّا عن Tintin فقد اختطفه بدورهم العرب من عشيرة الشيخ باب الإهر Bab El Ehr المناوىء للإنجليز والعدوّ اللدود للأمير محمّد بن كاليش إيزاب Ben Kalish Ezab. هدف باب الإهر طرد الإنجليز أمّا بن كاليش إيزاب فكان بحاجة إليهم لاستخراج النفط من أراضي إمارته وإن كان مستعدّاً لاستبدالهم إذا اقتضى الأمر. يعتقد البعض أنّ إيزاب يمثّل الملك عبد العزيز آل سعود وصوّره Hergé كرجل تسيّره مصالحه الشخصيّة وأهواء ابنه الصغير عبد الله الذي دلّله الأمير حتّى أفسده. يقسم الأمير بلحية النبي !par la barbe du prophète عندما يتملّكه الانفعال كما يفعل الكثيرون من المسلمين في القصص المصوّرة الغربيّة (لم أر أو أسمع مسلماً في حياتي يقسم بلحية محمّد). 





يقترب التوأمان Dupondt في مجموعة الصور الثالثة من جماعة من العرب المسلمين خلال أدائهم الصلاة ويركل أحدهما رجلاً ساجداً في مؤخّرته ليبرهن لشقيقه أنّه سراب! سبب آخر لعدم تعريب القصّة!





لاحظ أخيراً الإفريقي في آخر صورتين: الشفاه الحمراء الغليظة واللون الأسود القاتم. أضف إلى ذلك أنفأ أفطساً ولديك الزنجي في كاريكاتورات الغرب في مطلع ومنتصف القرن العشرين. حاول نشر أيّاً منها في جريدة أمريكيّة أو مؤسّسة عامّة اليوم! 




 

الخلاصة هناك عدّة أسباب تجعل نشر النسخة الأصليّة من الذهب الأسود اليوم من المحرّمات ومنها أنّ الإنجليز قد لا ينظرون بعين العطف على تسليط الأضواء على فصلٍ مخزٍ من تاريخهم الاستعماري وأنّ اليهود والعرب والمسلمين والسود قد يمتعضون من الطريقة التي صوّرهم بها الفنّان البلجيكي الكبير. 


لكلّ مكان وزمان مثله وقيمه ومسلّماته ومعتقداته.     

No comments:

Post a Comment