Thursday, November 11, 2021

هكذا تكلّم خالد العظم


كثيرون من السورييّن من يتغنّون على وسائل التواصل الاجتماعي بما يسمّونه "الزمن الجميل" ويقصدون به العهد السابق للوحدة وجمال عبد الناصر وحزب البعث. "البراهين" على نزاهة السياسييّن الأسطوريّة وقتها كثيرة والمصدر في أغلب الأحوال "منقول" وكفى (على مبدأ إذا بعدت الشقّة صعب التكذيب).


بعض الأمثلة: 


*كيف طرد جميل مردم بك المندوب السامي الفرنسي (بعض الروايات تقول أنّه ضربه). 


* شكري القوّتلي يعتذر من جودت الهاشمي مدير التجهيز على استعمال سيّارة الرئاسة من قبل ابنه حسّان للذهاب إلى المدرسة. 


* فارس الخوري وشهادته أن لا إله إلّا الله من منبر الأموي وكيف هزّأ المبعوث الفرنسي في الأمم المتّحدة. 


*خالد العظم والطريقة التي قصّ بها شعر ابنته أمام الجميع في مدرسة الفرنسيسكان ليري الحضور أنّه لا يعرف في الحقّ لومة لائم وكياسته في الطريقة التي دافع بها عن نزار قبّاني بعد نشر قصيدة "خبز وحشيش وقمر".  


هذه الروايات مبالغ فيها إلى أبعد الحدود على أقلّ تقدير ولا أستبعد أن تكون مختلقة من أساسها وبالطبع لا ينفي هذا أنّ الكثيرون ممّن يتناقلونها يفعلون ذلك بحسن نيّة. 


تبقى الطريقة المثلى للتعرّف على معدن شخص ما هي من خلال أفعاله وأقواله وليس ما يروى عنه ولحسن الحظّ ترك لنا خالد بك العظم مذكّراته في ثلاثة أجزاء يقارب عدد صفحاتها الإجمالي ألفاً وخمسمائة. كافّة ما أورده في الأسطر التالية مختارات مأخوذة من الجزء الثاني لهذه المذكّرات كما كتبها خالد بك نفسه ومن المعروف أنّه تبوّأ عدداً من أرفع المناصب في سوريّا بين الأعوام ١٩٤١ و ١٩٦٣. ماذا جاء فيها؟ 


- العظم إنسان مستقيم وزاهد وذو شعبيّة  (صفحة ٤٤٠) متواضع ويؤثر على نفسه (ص ٤٤٢) وما كان له أن يسعى إلى منصب إلّا عندما اعتقد أنّه لم يكن بوسع غيره إنقاذ الموقف ولم يتردّد في مدّ يده لمن خذلوه (ص ٤٤٣) والغفران لمن شتمه وأهانه (ص ١٠٧) وكان نصيبه من الحياة الدنيا نكران الجميل وجحود المعروف (ص ٤٩٩). 


- يفخر العظم بما اعتبره أحد أهمّ إنجازاته عندما فكّ الارتباط الجمركي مع لبنان ومنع سفر السورييّن إليه إلّا بإجازة "تعطى لدى الضرورة" وحدّد المبلغ الذي يمكن للسوري أن يخرجه إلى لبنان بخمسين ليرة. انهالت على خالد بك برقيّات التأييد بعد هذه المأثرة وكان "ارتياح الناس عظيماً" لهذا الإجراء (ص ٤٧ - ٦٠). الهدف بالطبع منع هجرة رؤوس الأموال السوريّة من قبل من "يصطافون ويقامرون في بيروت" (ص ٩٩) وحماية التاجر السوري. بعبارة ثانية لربّما كان بذار القطيعة بين لبنان وسوريّا فرنسياً ولكن الإنجاز والتكريس عربيّان بامتياز. 


نأتي الآن إلى النعوت التي أطلقها خالد بك ذات اليمين وذات اليسار على منافسيه وخصومه السياسييّن:


- رياض الصلح انتهازي وعقليّته عقليّة تاجر لبناني (ص ١٣).


- شكري القوّتلي داهية يعمل على الإيقاع بين الجميع للإبقاء على زعامته ( ص ١٨١) وجبان يطأطىء الرأس أمام القوّة (ص ٥٠٧). قاوم العظم المحاولات لمصالحته مع القوّتلي مفضّلاً "الفشل وحدي على النجاح بمعيّته". 


- رشدي الكيخيا ليس لديه شهادة كفاءة (ص ٢١٤) وهو أيضاً حقود وحسود (ص ٣٣٣).


- فوزي سلو بسمنته وتفكيره المحدود وكرشه.


- لطفي الحفّار تقاضى معاشاً شهريّاً من العراق قدره ألف ليرة (ص ٣١٤).


- صلاح الدين البيطار وضيع النفس فاقد للطموح (ص ٣١٥).


- جميل مردم بك وشكري القوّتلي أسوأ مثلين للقادة الذين تسيطر عليهم حاشيتهم (ص ٢٩٢). 


- ميخائيل اليان عميل لنوري السعيد (ص ٣٤٥).


- ناظم القدسي طيّب القلب ولكنّه ضعيف الإرادة (ص ٣٣٤).


- هاشم الأتاسي حقد على العظم وأصيب بنوبة هستريا أمام صبري العسلي وتدحرج على أرض الغرفة (ص ٤٠١) ولم يجشّم نفسه عناء شكر العظم الذي أنقذ ابنه عدنان من عقوبة الإعدام (ص ٤٩٨). 


- فارس الخوري "صديقي" (ص ٢٩٦) شخص ضعيف الإرادة (ص ٢٨٨). 


- صبري العسلي وعدنان الأتاسي ومعروف الدواليبي عملاء يبيعون ضمائرهم (ص ٢٨١). 


- سامي كبارة مخلص لوطنه وطيّب القلب ولكن رأسه لا يستوعب كثيراً (ص ٢٨٦).


- فيضي الأتاسي وأسياده في العراق (نوري السعيد) ص ٣٣٠.  


انتقد العظم أيضاً مؤسّسة الجيش الذي يرأسه شباب فشلوا في الحصول على شهادة مدرسيّة ممّا حملهم على الالتحاق بالمدرسة العسكريّة في حمص (يبدوا أنّ العامل الماديّ في هذا "الخيار" لم يخطر على بال خالد بك). 


مع ذلك أبدى العظم إعجابه بالبعض: 


- الحسين بن طلال عاهل الأردن الذي تمنّى لو كان زعيماً للعرب (ص ٢٥٦) لما هو عليه من القدرة على المناورة والشجاعة (ص ٥٠٤).


- الملك عبد العزيز آل سعود (ص ٢٦٠).


- هتلر الذي "حرّر ألمانيا ووجّهها في طريق العلوّ والسؤدد" (ص ٣٢٦). 


باختصار ومع استثناءات محدودة للغاية (أوّلها وأهمّها بالطبع خالد العظم) كانت سوريّا في "الزمن الجميل" محكومة بطغمة من العملاء والخونة والأغبياء والخرفين. 


ليس من المستحيل - من ناحية المبدأ - أن يكون القوّتلي جباناً يرمي الفتنة بين خصومه ولا أن يكون هاشم الأتاسي ورشدي الكيخيا حقودين ومن الممكن أن يكون فارس الخوري وناظم القدسي ضعيفيّ الإرادة وأن يكون فلان وعلتان عملاء مأجورين إلى آخر الأسطوانة. 


هناك احتمال آخر لتفسير كتابات خالد العظم يثير تساؤلات على مصداقيّة المؤلّف والمنهج الذي اتّبعه. أترك للقارىء تبنّي أو نبذ آراء هذا السياسي المخضرم من خلال مذكّراته التي يمكن تحميلها بالمجّان وفي كلّ الأحوال يمكن لنا على أقلّ تقدير أن نستخلص منها أن "الزمن الجميل" لم يكن جميلاً إلى هذه الدرجة في وقت تقاذف فيه رجالات سوريّا وقادتها الاتّهامات والسباب كما يفعل المراهقون.   

No comments:

Post a Comment