كتابٌ جميلٌ رأى النور عام ١٩٠٨. المؤلفّ هو المحترم Reverend John Kelman (١٨٦٤ - ١٩٢٩)، عدد الصفحات حوالي ٣٧٠ تزّينها ٨٦ صورة خارج النصّ، معظمُها لوحاتٌ ملوّنة للكاتبة والفنانّة Margaret Thomas (١٨٤٢-١٩٢٩)، مع بعض الصور الضوئيّة التاريخيّة.
هدف الكتاب تدمر، مع وصفٍ مشوّق للطريق إليها بمُخْتَلَفِ محطّاتِهِ، انطلاقاً من بيروت (نقطة التماس الحديثة بين الشرق والغرب)، مروراً بالبقاع وبعلبك (حيث تقاطع الشرق مع الغرب في العهود اليونانيّة والرومانيّة)، ودمشق العريقة المحافظة، نهايةً بعروس الصحراء.
لا داعي في هذه العجالة إلى التعرّض إلى وصفِ أسواقِ دمشق، وجوامِعِها، وتجارَتِها، وموسمِ الحجّ فيها وما إلى ذلك، فهناك من المراجع ما هو أكثر تفصيلاً وأغنى مادّةً وأكثر دقّةً. حسبنا الإشارة إلى بعض التفاصيل المثيرة للفضول هنا وهناك: ازدحام أزقّة دمشق الضيقّة المتعرّجة في مطلع القرن العشرين شديدٌ للغاية، لا يقلّ عن اكتظاظِ شوارِعِها العريضة في مطلع القرن الحادي والعشرين، باستثناء حلول سيّارات اليوم محلّ مشاة ودوابّ وعربات الأمس. أفادنا الكاتبُ أيضاً بوجود سوق للعبيد في المدنة، يمكن لقاصِدِه أن يعثر عليه، رغم أنّ الرق كان ممنوعاً آنذاك من ناحيةِ المبدأ. بلغت "تسعيرة" الطفل حسب المؤلِّف خمساً من النعاج وعنزةً.
لا ريبَ أنّ المحترم Kelman كان إنساناً مثقّفاً ومتسامحاً ومتقبّلاً للغير، بدلالةِ جَزْمِهِ أنّ المسلمين يعبدون الله عن قناعة. إلمامُ الكاتب بالتاريخ الإسلامي محدودٌ كما يبدو، ولست أدري ما المصدر الذي اعتَمَدهُ عندما نَسَبَ تسمية جامع دمشق الكبير إلى "ابن أموي"، الذي ولِدَ لجاريةٍ صغيرة. ما كان للمؤلّف، بطبيعة الحال، أن يغفِلَ تذكير القرّاء بماضي دمشق المسيحي. أقرّ Kelman بأنّ الحضارة العربيّة، على بساطَتِها، لها مزاياها، وإن كانت من عدّة أوجه، دون نظيرتِها الأوروپيّة. ركّز الكاتبُ، ككثيرٍ من المستشرقين، على استسلام الشرقييّن للقضاء والقدر، وكسلِهِم الفكري، وتعوّدِهِم منذ أقدم الأزمنة على حكم الطغاة. كل شرقي وبلا استثناء - حسب رأيِهِ - إمّا طاغية أو عبد؛ أمّا عن "لعنة الإدارة التركيّة" وفظاظتها، فحدّث ولا حرج.
__________________________________________________________________
الفصول المتعلقة بتدمر تُشَكِّل نهاية مطاف الكتاب، ولربّما أكثر صفحاتِهِ شويقاً، بدايةً من تدمر مطلع القرن العشرين ونهايةً بماضيها الغابر. Kelman، على خلفيّتِهِ الدينية، من ذوي العلمِ وحسنِ المحاكمة، رفض التسليم أنّ باني المدينة هو سليمان بن داود، رغم شهادة كتاب العهد القديم (أخبار الأيام الثاني الآية الرابعة من الإصحاح الثامن)، واعتمد بالأحرى على كتابات المؤرّخين وعلى رأسِهم Edward Gibbon (١٧٣٧-١٧٩٤)، وكتاب "تاريخ انحطاط وسقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة".
القصّةُ معروفةٌ، أُهْرِقَ عليها من الحِبْر ما هو أكثر من الكفاية. باختصار:
- ألحق الساسانيّون بالرومان هزيمةً نكراء عام ٢٦٠ للميلاد، وأسروا إمبراطورهم Valerian. كان لتدمر وملكها أذينة الثاني (Odaenathus) اليد الطولى في الدفاعِ عن المقاطعات الرومانيّة في الشرق الأدنى، وإنقاذِها من الفرس. زَعَمَ بعضُهُم أنّ أذينة أصبح، بعد هذه المآثر، إمبراطوراً شريكاً، وحصل على لقب أغسطس، بيد أنّ هذا مشكوك فيه. بغضّ النظر عن المسميّات، تمخّضت هذه الملحمة عن سيادةِ تدمر وعاهِلِها في شرق الإمبراطوريّة، ولم يكن بوسع الإمبراطور الروماني Gallienus أن يعترض، حتّى لو أراد.
اغتيل أذينة عام ٢٦٧، وكما يعلم القاصي والداني، خَلَفَهُ على عرش تدمر قرينتُهُ زنوبيا، وابنُهُما وهب اللات أو من أسماهُ الغربيّون Vaballathus. توسّعت المدينةُ، خلالَ فترةٍ قصيرة، من مملكةٍ صحراويّة، إلى إمبراطوريّةٍ مترامية الأطراف، امتدّت إلى مصر، وتحدّت رومية علناً بسكّ نقودِها الخاصّة التي حَمَلَت صورةَ زنوبيا وابنِها، دون الإمبراطور الروماني Aurelian. رَدَّ الرومان بتجهيز حملةٍ لمواجهة هذا التحدّي السافر، واستعادة الأقاليم المفقودة، وعقاب من شقّوا عصا الطاعة. انتهت الحربُ بهزيمةِ تدمر وأسرِ مَلِكَتِها. ارتأى Kelman أنّه ما كان للرومان أن يأخذوا تدمر بهذه السهولة لو اهتمّ أهلُها بتحصينِ مدينَتِهِم عوضاً عن تجميلها.
للإنصاف وفّرَ Aurelian المدينةَ في البداية، واكتفى بتركِ حاميةٍ فيها قبل أن يغادر سوريّا مع جيوشِهِ باتّجاه العاصمة. تقرّرَ مصيرُ تدمر مع الأسف عندما تمرّد أهلُها وذبحوا جنود الحامية الرومانيّة. بالكاد عَبَرَ Aurelian وعسكرهُ الدردنيل إلى أوروپا، عندما اضطرّ إلى العودة على جناح السرعة لقمع التمرّد وتدمير المدينة - عام ٢٧٣ - بحيث لا يقوم لها بعد ذلك قائمة؛ وهكذا - إذا قبلنا رأي Gibbon - ضحّى التدمريّون بثمرةِ أجيالٍ من الرخاء في سبيلِ هنيهةٍ من المجد.

No comments:
Post a Comment