Thursday, September 4, 2025

الإصلاح والتسامح الديني بين الغرب المسيحي والشرق المسلم

 


كان ردّ فعل الغرب عموماً والولايات المتّحدة خصوصاً، على مجزرة الحادي عشر من أيلول عام ٢٠٠١، مزيجاً من الصدمة والأسى والغضب العارم. تصاعدت الأصوات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تندّد بالجريمة الشنعاء التي أزهقت أرواح الآلاف من الأبرياء في لحظات معدودة، وتطالب بردّ فعل فوري وحازم يكون جديراً بأقوى وأغنى دول العالم في مطلع القرن الحادي والعشرين.

منهم من طالب، وبحقّ، بمطاردة المجرمين ومن آواهم ودعمهم أنّى كانوا ومحاكمتهم، وإن تعذّر ذلك فبقتِلِهم دون رحمة؛ ومنهم من طالب العالم الإسلامي ِبرمّتِهِ أن يتبرّأ من الإرهابيّين ويعتذر باسم الإسلام؛ وآخرون رفعوا عقيَرَتهم ينادون أنّ الأوان قد آن لحركة إصلاح ديني تلحق الإسلام والمسلمين بالعالم المتمّدن والحضارة والتنوير.

 يحسن، قبل الدخول في وجوب الإصلاح من عَدَمِهِ، التوكيد أنّ العالم الإسلامي لا يدين للغرب بأيّ اعتذار لا على ١١ أيلول ولا غيره. مسؤوليّة المسلم عن هذه المأساة لا تتعدّى مسؤوليّة المسيحي عن الحروب الصليبيّة، أو مسؤوليّة اليهودي عن قصف غزّة. المجرم فقط يُحَاسَب، إذا أمكن ذلك على الإطلاق، وليس كلّ من شاركه لغته أو لون بشرته أو بعض معتقداته، ودون الدخول في تفاصيل عن نفاق الغرب الذي لا يجد غضاضةً في دعم التطرّف الديني طالما كان موجّهاً ضدّ أعدائِه، كما دعمت الولايات المتّحدة السعوديّة منذ أربعينات القرن العشرين على مبدأ "حكلّي لحكّلك".

ماذا عن الدعوة للإصلاح الديني؟ هل الإسلام بحاجةٍ ماٍسّة إليهِ فعلاً كما يزعم البعض من المسلمين وغير المسلمين؟ هل يمكن لهكذا إصلاح أن يتمخّض عن "عصر نهضة" ومن ثمّ "ثورة صناعيّة" أوحتّى "معلوماتيّة" أسوةً بالغرب؟

يحسن هنا التذكير أنّ الدعوة للإصلاح الديني في العالم الإسلامي ليست جديدةً على الإطلاق، ولا أقصد هنا أمثال جمال الدين الأفغاني ومّحمد عبده. أحد أهمّ وأشهر وأنجح حركات "الإصلاح" هي الحركة الوهابيّة التي رأت النور في القرن الثامن عشر. لا ضير في هذا الصدد من الاستشهاد بالكتب المدرسيّة السوريّة في عهد حزب البعث، على الأقلّ عندما كنت أنا طالباً. أفادت المناهج  حتّى مطلع أو منتصف السبعينات ولربّما بعد ذلك، أنّ الوهابيّة دعت للاقتداء بالسلف الصالح (السلفيّة)، والعودة إلى أصول الإسلام - لم يكن "الإسلام الأصولي" وصمةً آنذاك حتّى في الغرب)، ونبذ البدع والضلالات التي أدّت لانحراف الدين عن صراطه المستقيم، ممّا أدّى بدورِهِ إلى ضعف وانحطاط الأمة الإسلاميّة، ولربّما أيضاً العربيّة. صدّق أو لا تصدّق كانت نظرة المقرّرات السورية "التقدميّة" للوهابيّة إيجابيّة، وبأضعف الإيمان حيادّية!

لربما أفتى البعض أنّ فشل الإصلاح الديني في البلاد ذات الأكثرّية الإسلاميّة عائدٌ إلى "عدم تطبيقِهِ كما ينبغي"، أو أنّ بعض المُغْرِضين استغلّوه لتحقيق مآرب دنيويّة وأنانيّة، وأنّ النصوص الدينيّة يجب أن تُفَسّر بشكلٍ مختلف، وأنّه يتعيّن اتّباع بعض حركات الإصلاح دون سواها، وأنّه وأن…. وإلا ما سبب "نجاح" الإصلاح الديني في الغرب؟

هل نجح الإصلاح الديني في الغرب فعلاً؟ هل يُعزى تفّوق الغرب إلى الإصلاح الديني؟ هل المسيحيّة في الغرب أكثر تسامحاً من الإسلام في الشرق؟ أعتقد أن الجواب على هذه الأسئلة الثلاثة هو لا ولا ولا.

حركة الإصلاح الديني في أوروبّّا شديدة التعقيد، ومتباينة الأسباب، ويتعذّر بالتالي الإحاطة بها في أسطرٍ قليلة. أقتصر على مثالين يختلفان عن بعضهما اختلاف الليل عن النهار:

الأول في إنجلترا في عهد هىري الثامن (١٥٠٩ - ١٥٤٧). استقلّ هذا الملك عن الكنيسة الكاثوليكية لسببين: الأوّل كي يبطل زواجَه من كاثرين آراغون ويقترن من آن بولنّ التي اشتهاها وأمل أن ينجب وليّاً لعهدِهِ منها (لم يمنعه هذا من الأمر بقطع رأسها لاحقاً والزواج أربع مرات إضافيّة)، والثاني كي يصادر أموال الكنيسة الكاثوليكيّة لمصلحة التاج البريطاني.

الثاني إصلاح الفرنسي جان كالڤين (١٥٠٩ - ١٥٦٤)، مؤسس الكلڤينيّة التي تضاهي الإسلام الأصولي إن لم تتفوّق عليهِ في التزمّت، والتي تعبد إلهاً أشبه "بربّ جنود" العهد القديم منه بيسوع المسيح في العهد الجديد. 

لا داعي للخوض في الحروب الدينيّة لا في الغرب ولا في الشرق؛ حسبنا القول أن الإنسان المتديّن مثله مثل غير المتديّن، يمكن أن يكون قدّيساً أو شيطاناً. في زعمي أنّ تسامح الغرب وتفوّقه اليوم عائدٌ لعواملٍ لا علاقة للتديّن بها لا من قريب ولا من بعيد.

كي نصلح ديناً، أي دين، يجب أن نختار النصوص المقدّسة التي تعجبنا أو التي يمكن تفسيرها حسب الزيّ الشائع في عصرٍ معيّن، وأن نتجاهل تلك التي لا تعجبنا؛ وإذا أُحْرِجْنا واضطررنا إلى الدفاع عن بعض النصوص التي ليس من السهل تجاوزها،  لجأنا إلى التعليل والتأويل بأغرب التفسيرات وأكثرها منافاةٍ للعقل بحيث نجرّد الكلمات من معانيها ويصبح الموضوع مجرد تلاعب بالألفاظ وتضليل للنفس قبل الغير.

ليس إسلاميّو سورّيا من "يتسامح" مع الأقليّات المسيحيّة أو الغير" مسلمة بما فيه الكفاية" - كلمة "تسامح" بحد ذاتها إهانة ضمنية للأقليّات ومعاملة فوقيّة - وعلى نفس المنوال ليس مسيحيّو الغرب من "يتسامح" مع أقليّاتِهِ الكثيرة، بما فيها الإسلامية.

يعرّف كثيرٌ من السياسييّن في أوروپّا أنفسهم كلا دينيّين؛ حتّى في الولايات المتّحدة الأمريكيّة الشديدة التديّن إلى درجةٍ لا تسمح لكبار ممثّليها بالمجاهرة بعدم إيمانِهم، لدينا دستورٌ ينصُّ صراحةً على فصل الدين عن الدولة. هذا الفصل هو سبب التسامح الديني في الغرب ولربمّا ساهَمَ في تفوّقِه العلمي والتقني وإن لم يكفِ بحدّ ذاته لتفسير هذا التفوّق.

No comments:

Post a Comment