أجهز انقلاب عبد الكريم النحلاوي في الثامن والعشرين من أيلول سپتمبر عام ١٩٦١ على الوحدة السوريّة المصريّة التي دامت ثلاث سنوات ونصف بحلوها ومرّها، وتلتها فترة ما سمّي بمفعولٍ رجعي بالانفصال، تحّول فيه الإقليم الشمالي للجمهوريّة العربيّة المتّحدة إلى الجمهوريّة العربيّة السوريّة.
دام عهد الانفصال عاماً ونصف العام تحوّل فيها جمال عبد الناصر بقدرِة قادر من بطل أمّة العرب المزعومة إلى طاغيةٍ مستبدّ، أو هذا على الأقل ما زعمه الصحافي السوري نهاد الغادري في كتابه "الأسود في حقيقة عبد الناصر".
يمكن الاستدلال من عنوان الكتاب أنّه ليس عملاً مهنّياً أو سرداً تاريخيّاً. لم يجشّم الغادري نَفْسَهُ عناءَ المقارنة بين إيجابيّات الوحدة و سلبيّاتِها مكتفياً بهجومٍ عاطفي على عبد الناصر وترديد أقوال أعدائِهِ دون أدنى محاولة لذكر المصدر أو المصادر. على سبيل المثال و ليس الحصر:
١. عبد الناصر اضطّهد الشيوعييّن (صحيح دون أدنى شكّ) وقام زبانيةُ عامِلِهِ في سوريّا، عبد الحميد السرّاج، بقتل فرج الله الحلو وتذويب جثّتِهِ بالأسيد. ليس في نيّتي الدفاع لا عن عبد الناصر ولا عن السّراج ولكن لماذا الأسيد وهو باهظ الثمن ولا لزوم له في وقت ندر فيه من يتجاسر على مفاتشة السرّاج في الإقليم الشمالي؟ ما هي قيمة حياة إنسان واحد لدى رجل المخابرات الأوّل في سوريّا وقتها؟ بالطبع ليست الرواية بالمستحيلة وأعلم جيّداً أنّها موجودة في روابط لا تحصى على الشبكة ولكن هل هناك من حاول التحقّق من أصلِها؟
٢. عبد الناصر كان عميلاً للمخابرات المركزيّة الأمريكيّةّ! الدليل؟ أدخل الزعيم المصري مجلّة المختار (ريدرز دايجست) إلى بلادِهِ لتبثّ سمومَها. تجدر هنا الإشارة إلى أنّ الدخول الأوّل للمختار إلى مصر والعالم العربي كان عام ١٩٤٣ عندما كان اسم عبد الناصر مجهولاً بالكليّة.
٣. عبد الناصر اشترى الصحافة اللبنانيّة: أنيس فريحة مثلاً، الذي نسب إليه الغادري القول بعد أن قبض المعلوم: "أبو خالد لعينيك، لبنان كلّو بين رجليك!" لا أعلم كم كان باستطاعة عبد الناصر أن يدفع لشراء الذمم في لبنان وغير لبنان وما أعلمهُ يقيناً استحالة منافسة المال المصري للخليجي في عهد النفط.
إلى آخر التفاهات والترّهات.
يقول المثل الشامي: "موت يا أبي وشرّفني قلّو ليموت مين يعرفني". فلنقفز أربعين سنة إلى الأمام ونتعرّف على زعيم "حزب الإصلاح السوري" فريد الغادري، ابن الوطني الغيّور نهاد الغادري. شكّل الغادري الصغير حزبَهُ في أمريكا في بداية القرن الحادي والعشرين بهدف "تحرير سوريّا" من حكم البعث والأسد بمعونة نفس الولايات المتّحدة التي اتّهم أبوه عبد الناصر بالعمالة لمخابراتِها. ذهب فريد أبعد من ذلك إذ أدرك منذ البداية أن الطريق إلى قلب أمريكا يمر من إسرائيل، تماماً كما يمرّ طريق المرأة إلى قلب الرجل من معدته، وكما يمرّ طريق تحرير فلسطين عبر أكثر من عاصمةٍ عربيّة. بناءً عليه كان فريد في طليعة من زار إسرائيل ذاهباً إلى درجة نصْحِها (وكأنّها تحتاج إلى النصيحة) بعدم إعادة الجولان إلى سوريّا طالما كان الأسد على رأس حكومتها.
لم يكن هناك نقصٌ في العرب المتعاملين مع إسرائيل في يومٍ من الأيّام بدايةً من الهاشمييّن في الأردنّ ومروراً بالكتائب اللبنانيّة ونهايةً بعرب الخليج وعلى رأسِهم الإمارات وقطر، بيد أنّ تبادل الحبّ والغرام مع إسرائيل علناً كان من المحرّمات حتّى زيارة السادات إلى القدس عام ١٩٧٧ وكانت تهمة العمالة لأمريكا تكفي للطعن بمصداقيّة أي زعيم عربي. نستطيع دوماً في هذا الصدد الاستشهاد بكتاب نهاد الغادري "الأسود"، الذي غازل ابنه فريد إسرائيل بعد أربعين سنة على عينك يا تاجر لا بل واستعداها على سوريّا دون ذرّةٍ من الحياء أو الخجل. الأنكى من ذلك أن أمثال فريد الغادري تكاثروا إلى درجةٍ مشينةٍ و مخزية مع بداية ما سمّي تجاوزاً بالربيع العربي.
البديهيّات التي اتّفقت عليها الغالبيّةُ العظمى من السورييّن ممنّ سعوا إلى الوحدة مع مصر قبل ثلاثة أجيال أصبحت مثاراً للهزء والسخرية في مطلع القرن الحادي و العشرين، والذين كانوا يتهرّبون من تهمة العمالة لأمريكا أو يتّهمون خصومَهم بالعمالة لها أصبحَ أولادُهم يخطبون ودّها عبر تلّ أبيب.