يعرف القاصي والداني في العالم العربي مآثر الأمير عبد القادر، بطل الجزائر، وأشهر من قاد المقاومةَ فيها ضدّ الفرنسييّن. لعبد القادر مكانةٌ خاصّةٌ في قلوبِ الدمشقييّن، تضاهي مكانَتَهُ لدى أحبّتنآ الجزائرييّن أو تكاد، كونه أقام في دمشق بداية من عام ١٨٥٦، حتّى وفاته عام ١٨٨٣، عندما دُفِنَ في الصالحيّة إلى جانب المتصوّف الأندلسي محيي الدين ابن عربي. بالنتيجة نُقل رفات الأمير بصورةٍ رسميّةٍ مهيبة إلى مسقط رأسه في الجزائر عام ١٩٦٥.
لنا، بهدف التبسيط، أن نتناول عبد القادر من ثلاث زوايا، منها ما هو معروفٌ ومُتّفَقٌ عليه، ومنها ما يجهله أو بالأحرى يتجاهله السرد التقليدي في العالم العربي عموماً وسوريّا خصوصاً.
هناك الأمير المجاهد عبد القادر "الأول"، الذي أبلى البلاء الحسن على مدى السنوات في مقاومة الاستعمار الفرنسي، وكبّدَهُ أفدَحَ الخسائر. أطنب الكتّاب السوريّون وأسهبوا في وَصْفِ كرّهِ وفرّهِ، وصولاتِهِ وجولاتِهِ، التي مهّدت الطريق "لثورة المليون شهيد" في منتصف القرن العشرين.
تألّق الأمير عبد القادر" الثاني" في دمشق، منفاه ووطنه بالتبنّي، عام ١٨٦٠، عندما بذل قصارى جَهْدِهِ لإنقاذ من أمكن إنقاذُهُ من مسيحيّي دمشق، إذ هاجمت الدهماء حيَّهم الذي دُمِّرَ وسُوّي بالأرض. لا ذكر لهذه المجزرة في المناهج السوريّة وليس المقصودُ من هذا الإغفال غمطَ الأمير حقَّهُ، بل محاولة تجاهل أو تناسي فصل تاريخي مخزٍ ومشين، ناهيك عن عدم انسجامِهِ مع أسطورة التعايش السلمي بين الأديان، وحبّ الطوائف الشاميّة بعضُها بعضاً إلى درجة الهيام. هذا لا يعني بالطبع أنّ أحداً لم يجشّم نَفْسَهُ عناء تأريخ المجزرة، بيد أنّ معظم من كَتَبَ عنها أجانب؛ أمّا الدارسون المحليّون فيلجأون، إذا اضطّروا إلى التعرّض إليها مُكْرَهٌ أخاك لا بطل، إلى أغربِ التفسيرات والتبريرات، ويعزون المأساة بالدرجةِ الأولى إلى التدخّل الأجنبي، ويتناسون هويّةَ مَن قَتَلَ ونَهَبَ وسبى وأحرَقَ؛ السبب على الأرجح أنّ أولياء أمور الشام يعتبرون هذه الوقائع أكثر ممّا يمكن لحساسيّة طلّاب المدارس تحمّله.
"التقمّص الثالث" لعبد القادر، والأقل معرِفَةً في العالَم العربي، كمَحْمي فرنسا في دمشق وأخلص أعوانِها. إذا كان الأميرُ وَقْتَهَا من أغنى أغنياء دمشق، فهذا بفَضْلِ ريعٍ سنوي من الحكومة الفرنسيّة، ضُوعِفَ في أعقاب مذبحة ١٨٦٠ إلى مائة وخمسين ألف فرنك؛ مبلغٌ هائل في ذلك الزمن. أنعمت فرنسا على عبد القادر، في جملةِ نِعَمِها، بوسام جوقة الشرف، وأصبحت دارُهُ قِبْلَةً للزوّار، وتزوّج خمس مرات، وقارب عددُ أولادِهِ ـ حسب بعض المصادر ـ الأربعين، وملك عدداً من البيوت الباذخة في المدينة.

No comments:
Post a Comment