Wednesday, January 25, 2017

الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة



المؤلِّف، عزّ الدين بن شدّاد، حلبيّ المولد، التجأ إلى مصر فراراً من المغول عام ٦٥٧ للهجرة (١٢٥٨ للميلاد) وأقام فيها عشر سنوات، انتقل بعدها إلى دمشق، مدينةٌ عرفها حقّ المعرفة خلال إقامته في ربوعها أواخر العهد الأيّوبي. توفّي ابن شدّاد بالنتيجة في القاهرة عام ٦٨٤ (١٢٨٥ للميلاد) ودفن هناك.


استغرقت كتابة "الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة" حوالي عشر سنوات، وأُنْجِز العمل قبل وفاة المؤلّف بأربع سنوات. موضوع البحث هنا هو الجزء المتعلق بمدينة دمشق، الذي حقّقَهُ وفَهْرَسَهُ وعلّقَ عليهِ الدكتور سامي الدهّان، ونشره المعهد الفرنسي للدراسات العربيّة بدمشق عام ١٩٥٦. اعتمد دهّان على مخطوطتين تاريخيّتين لآبن شداد، الأولى مخطوطة لندن، التي أصابَها تلفٌ كبيرٌ من جرّاء الرطوبة، والثانية مخطوطة ليدن المحفوظة في هولندا؛ وقارن تاريخ دمشق لابن شدّاد بتاريخ ابن عساكر قبل قرنٍ من الزمن. الكتابان متوافران للتحميل بالمجّان.


اقتبس ابن شداد عن ابن عساكر الكثير، مِن أصول المدينة الأسطوريّة ومَن يفترض أنّه بناها، اعتماداً على النصوص الدينيّة والسيَر المُتَداوَلَة، إلى أبوابِها وقلعتِها وجامِعِها الكبير، ومساجِدِها العديدة، وهلمّجرّا. أضرب صفحاً عن المنقول عن ابن عساكر لأركّز على ما أضافه ابن شدّاد، وهو ليس بالقليل، كما هو مُتَوَقّعٌ إذا أخذنا بعين الاعتبار الفارق الزمني بين العالِمَيْن.


تحسن هنا الإشارة إلى اختلاف الأسلوب: ابن شدّاد أقل اهتماماً بالإسناد، وإن حاولَ جَهْدَهُ أن يبيّن مواضع المعالم التي عدّدها في زمن لا يعرف خرائط المدن. التفاصيل عن أبعاد المباني وهندستها وزخرفتها وكسوتها معدومةٌ بالكامل، كما هو الحال لدى ابن عساكر. لربّما كان ابن جبير الأندلسي أوّل من وصف الجامع الأموي بشكل منهجي وعلمي؛ زار ابن جبير دمشق عام ١١٨٤ للميلاد، أي قبل حوالي مائة عام من "الأعلاق الخطيرة"، مع ذلك لا يوجد ما يشير أنّ ابن شدّاد كان مطّلعاً على كتابات الرحّالة الشهير في عهدٍ سابق للطباعة وثورة الاتّصالات. انصبّ اهتمام ابن شداد وابن عساكر بالأحرى على ما أُنْفِقَ في بناء الجامع، ومَنْ أمر بترميمِهِ وكيفيّة تمويل هذا الترميم.


بذل ابن شداد قصارى جهده في تعداد دور العبادة داخل وخارج سور المدينة. تجاوز عدد المساجد الستمائة، كثيرٌ منها استُحْدِثَ بعد ابن عساكر، أمّا الكنائس فلم تزِد عن خمسة عشر، بما فيها كنيس اليهود. يمكن تفسير هذا التفاوت الصارخ بأكثر من طريقة: لربّما كانت المعابد المسيحيّة واليهوديّة أكبر مساحة من الإسلاميّة (باستثناء الجامع الأموي طبعاً)، واتّسعت بالتالي لعددٍ أكبر من المصلّين، أو علّ التباينَ عائدٌ إلى قيودٍ على بنائِها. الصورةُ الناتجة في كلّ الأحوال لمدينةٍ يغلبُ عليها الطابَع الإسلامي، مقارنةً مع العهد الأموي الذي اختَلَفَ الوضع فيه جذريّاً استناداً إلى المعطيات المتوافرة.


كلُّ هذا لايقلّل بالطبع من أهميّة واستمراريّة الوجود المسيحي في دمشق، بدلالةِ بضعٍ صفحات خصّصها ابن شدّاد للأديرة التي أنشَدَ المسلمون الأشعارَ في حسنِها، ومذاقِ خمورِها، والتي ارتادَها خلفاؤهم للقصف وشرب الراح في كنفها، من الأموييّن إلى العباسييّن، على مبدأ "فمنّا الوليدُ ومنّا الرشيد".


لابن شدّاد فضل إضافي على تاريخ دمشق، كونه أوّل من كرّسَ باباً لمدارسها التي بلغ عددُها آنذاك ٩٢. لا بدّ هنا من التنويه أنّ الأغلبيّة الساحقة من هذه المدارس لا تعدو كونَهَا مؤسّساتٍ دينيّةٍ إسلاميّة مُعْظَمُها للمذهبين الحنفي والشافعي، ولا يزيد عدد مدارس الطبّ ضِمْنَها عن الاثنين. كافّة ما أورده ابن شداد عن هذه المدارس يتلخّص عمليّاً بمن أنشأها، ومن علّم فيها حتّى عهدِهِ دون أي تفاصيل عن اتّساع وكيفيّة وتوزيع الأبنية.


خصّص ابن شدّاد فصلاً مستقلّاً لتعداد حمّامات دمشق، التي زادت من ٥٧ في عهد ابن عساكر، إلى ٨٥ في عهده، دون ذكر ما وقع منها خارج أسوار المدينة. اقتصر المؤلّف على ذكر الحمّام، وإن تعرّض أحياناً لموقِعِه باختصارٍ شديد.


آخر ٦٠ صفحة من الكتاب تُسبِّحُ في "فضل المدينة وما مُدِحَت بِهِ نَثراً ونَظماً"، بداية من القرآن ـ إذا سلّمنا أنّ دمشق هي "إرم ذات العماد التي لم يُخْلَق مثلها في البلاد" على سبيل المثال ، والسنّة (عن ابن عساكر عن أبي هريرة وغيرهم)، ونهايةً بما قَاله الشعراءُ والأدباءُ فيها وفي غوطَتِها وأنهارِها وأشجارِها وثمارِها، وفيه الكثير ممّا  يستحقّ القراءة.


خالص الشكر للدكتور دهّان والمعهد الفرنسي للدراسات العربيّة، على إنقاذ هذا السِفْر النفيس، وتدقيقِهِ، ونشرِهِ يهذا الأسلوب الأخّاذ، وتعريف الأجيال اللاحقة بِهِ.


Thursday, January 19, 2017

دمشق بعد الفتح الإسلامي




تشغل الدكتورة نانسي خالق مرتبة أستاذ مساعد في الدراسات الدينيّة في جامعة براون. صدر كتابُها عام ٢٠١١ عن مطابع جامعة أكسفورد.

لا يتناول الكتاب تاريخ دمشق history بقدر ما هو يتعلق بعلم التاريخ historiography أي الطريقة والتقنيّة التي يتعرّض فيها المؤرّخون والأكاديميّون للموضوع قيد البحث وكيفية مباشرة وتفسير المصادر المتوافرة سواء كانت مكتوبة أو ملموسة (الأثار العمرانيّة والفنيّة وغيرها) أو منقولة شفهياً.

الفترة قيد الدراسة هي الممتدّة من الفتح الاسلامي لسوريّا في ثلاثينات القرن السابع للميلاد إلى العهد الأموي الذي لفظ أنفاسَه الأخيرة في منتصف القرن الثامن والمشكلة هنا أن المصادر المباشرة (أي المعاصرة) لهذه الأحداث الجسام محدودة للغاية إن لم نقل شبه معدومة إلى أن جاء ابن عساكر الدمشقي بتاريخه الشهير للمدينة ليسلّط الأضواء على بدايات العهد الاسلامي في سوريا ويعطي على الأقل مواد البناء - إذا جاز هذا التعبير - التي أضاف إليها المؤرّخون اللاحقون عبر العصور.

المشكلة ببساطة أن الفترة الزمنيّة المنصرمة بين الحافظ ابن عساكر (١١٠٦-١١٧٥ للميلاد) وبين نهاية العهد الأموي تبلغ حوالي الأربعة قرون وأنّ المصادر التي ذكرها في كتابِهِ غير موجودة إلّا من خلال هذا الكتاب وإن بذل قصارى جهده "لإسناد" ما وثّقه على طريقة الأحاديث النبويّة: "عن فلان عن فلان أنّ فلاناً قال". هناك بشكل عام طريقتان لحل هذه المعضلة:

الأولى أن نقبل ما ذكره ابن عساكر (أو غيره من الرواة) على علّاته كما نقبل صحيح البخاري مثلاً.

الثانية أن نرفض ما قاله جملةً وتفصيلاً ما لم تؤيده مصادر مستقلّة cross examination بيزنطيّة أو فارسيّة أو غيرها أو دلائل ملموسة على أرض الواقع كالنقود المعدنيّة والعمائر وهلمّجرا.

حلّت المؤلّفة هذه المشكلة بطريقةٍ مبتكرة تتلخّص بالتركيز ليس فقط عمّا كتبه السلف وإنما كيف كتبوه (مصادرهم كما وصفوها) ولماذا كتبوه وتحت أي ظروف. باتّباع هذا المنهج تكتسب السيرة أهميّةً خاصة كونها تعكس المفاهيم والقيم لدى كتابة السطور وإن لم تسرد بالضرورة الأحداث كما وقعت فعلاً قبل مئات السنين من تدوينها. بعبارةٍ ثانية هدف الكتابة يمكن أن يكون دينيّاً (الدفاع عن وتبرير المذهب أو المذاهب السنيّة) أو للتوكيد على هويةٍ مكتسبة (إسلاميّة) أو لشرح أحداث زمن الكتابة عن طريق إيجاد سياق "تاريخي" لها.

لنأخذ على سبيل المثال قصّة "اكتشاف" الخليفة الوليد بن عبد الملك لرأس يوحنّا المعمدان (النبي يحيى) خلال الحفريّات التي سبقت بناء جامع بني أميّة الكبير والتي أوردها ابن عساكر ومن ثم ابن شدّاد (وفيّات عام ١٢٨٥ للميلاد) بعده بقرنٍ من الزمن وغيرهما نقلاً عنهما.

بمراجعة النصوص التاريخيّة نجد أنّ رأس المعمدان "اكتُشف" أكثر من مرّة قبل الإسلام بقرنين من الزمن وفي أكثر من مكان (حمص والقسطنطينيّة) وأنّ "ذخائر" المعمدان كانت منتشرة في أرجاء الشرق الأدنى.

رغم كل ذلك تبقى نادرة الوليد الأول مع رأس المعمدان هامّة للغاية ليس لأنّها حقيقة تاريخية لا يرقى إليها الشكّ ولكن كونها لعبت دوراً جوهرياً مع غيرها من الأساطير والسير "المتفق عليها myths agreed upon في بناء هويّةٍ جديدة عربيّة وإسلاميّة انطلاقاً من معطيات الكتاب المقّدس وأدبيّات سوريّا البيزنطيّة والسريانيّة.



Nancy Khalek. Damascus after the Muslim Conquest.Text and Image in Early Islam. Oxford University Press 2011. 

Tuesday, January 10, 2017

Bonfils, Damascus, and Henry Kissinger


Félix Bonfils (1831–1885) was a French military photographer and writer who arrived in the Levant with the French troops sent out after the 1860 massacre of the Christians in Damascus. When the mission ended, he decided to set up a studio for photography in Beirut. It eventually became a family business that produced a priceless collection of some three thousand images of the Near East.

The Bonfils family returned to France in 1907, and their collection, or a substantial part of it, was purchased by the Semitic Museum at Harvard in the USA. Interest in the museum had waned by the 1930s, and when WWII broke out, the photo collections—including that of Bonfils—were packed up and placed in the attics; the top floor of the museum was rented to the Center for International Affairs, and soon everyone forgot all about the pictures.

Years went by, and, in the course of time, Dr. Henry Kissinger became a Fellow of the above center and kept an office there. Dr. Kissinger was a National Security Adviser to President Nixon in 1970 when two young radical women tried to assassinate him by planting a bomb in front of the building. Kissinger survived, but the explosion blew a hole in the ceiling, and the hidden photographic treasure came to light during inspection of the damages. The images remain a valuable record of houses, streets, and monuments of late 19th-century Damascus. The bulk of the photographed mansions were foreign consulates and Christian and Jewish houses, as they were more accessible to foreigners than Muslim ones.


Brigid Keenan
 & Tim Beddow
Damascus: Hidden Treasures of the Old City. Thames & Hudson May 2000.

Monday, January 2, 2017

عبد القادر الجزائري: الرجل والأسطورة



يعرف القاصي والداني في العالم العربي مآثر الأمير عبد القادر، بطل الجزائر، وأشهر من قاد المقاومةَ فيها ضدّ الفرنسييّن. لعبد القادر مكانةٌ خاصّةٌ في قلوبِ الدمشقييّن، تضاهي مكانَتَهُ لدى أحبّتنآ الجزائرييّن أو تكاد، كونه أقام في دمشق بداية من عام ١٨٥٦، حتّى وفاته عام ١٨٨٣، عندما دُفِنَ في الصالحيّة إلى جانب المتصوّف الأندلسي محيي الدين ابن عربي. بالنتيجة نُقل رفات الأمير بصورةٍ رسميّةٍ مهيبة إلى مسقط رأسه في الجزائر عام ١٩٦٥.


لنا، بهدف التبسيط، أن نتناول عبد القادر من ثلاث زوايا، منها ما هو معروفٌ ومُتّفَقٌ عليه، ومنها ما يجهله أو بالأحرى يتجاهله السرد التقليدي في العالم العربي عموماً وسوريّا خصوصاً.


هناك الأمير المجاهد عبد القادر "الأول"، الذي أبلى البلاء الحسن على مدى السنوات في مقاومة الاستعمار الفرنسي، وكبّدَهُ أفدَحَ الخسائر. أطنب الكتّاب السوريّون وأسهبوا في وَصْفِ كرّهِ وفرّهِ، وصولاتِهِ وجولاتِهِ، التي مهّدت الطريق "لثورة المليون شهيد" في منتصف القرن العشرين.


تألّق الأمير عبد القادر" الثاني" في دمشق، منفاه ووطنه بالتبنّي، عام ١٨٦٠، عندما بذل قصارى جَهْدِهِ لإنقاذ من أمكن إنقاذُهُ من مسيحيّي دمشق، إذ هاجمت الدهماء حيَّهم الذي دُمِّرَ وسُوّي بالأرض. لا ذكر لهذه المجزرة في المناهج السوريّة وليس المقصودُ من هذا الإغفال غمطَ الأمير حقَّهُ، بل محاولة تجاهل أو تناسي فصل تاريخي مخزٍ ومشين، ناهيك عن عدم انسجامِهِ مع أسطورة التعايش السلمي بين الأديان، وحبّ الطوائف الشاميّة بعضُها بعضاً إلى درجة الهيام. هذا لا يعني بالطبع أنّ أحداً لم يجشّم نَفْسَهُ عناء تأريخ المجزرة، بيد أنّ معظم من كَتَبَ عنها أجانب؛ أمّا الدارسون المحليّون فيلجأون، إذا اضطّروا إلى التعرّض إليها مُكْرَهٌ أخاك لا بطل، إلى أغربِ التفسيرات والتبريرات، ويعزون المأساة بالدرجةِ الأولى إلى التدخّل الأجنبي، ويتناسون هويّةَ مَن قَتَلَ ونَهَبَ وسبى وأحرَقَ؛ السبب على الأرجح أنّ أولياء أمور الشام يعتبرون هذه الوقائع أكثر ممّا يمكن لحساسيّة طلّاب المدارس تحمّله.


"التقمّص الثالث" لعبد القادر، والأقل معرِفَةً في العالَم العربي، كمَحْمي فرنسا في دمشق وأخلص أعوانِها. إذا كان الأميرُ وَقْتَهَا من أغنى أغنياء دمشق، فهذا بفَضْلِ ريعٍ سنوي من الحكومة الفرنسيّة، ضُوعِفَ في أعقاب مذبحة ١٨٦٠ إلى مائة وخمسين ألف فرنك؛ مبلغٌ هائل في ذلك الزمن. أنعمت فرنسا على عبد القادر، في جملةِ نِعَمِها، بوسام جوقة الشرف، وأصبحت دارُهُ قِبْلَةً للزوّار، وتزوّج خمس مرات، وقارب عددُ أولادِهِ ـ حسب بعض المصادر ـ الأربعين، وملك عدداً من البيوت الباذخة في المدينة.