Wednesday, June 21, 2017

دليل الحكومة الأمريكيّة إلى سوريّا


الكتابُ قيد المراجعة واحدٌ من سلسلةٍ من الدراسات التي نشرتها حكومة الولايات المتّحدة وتحديداً Federal Research Division of the Library of Congress قسم الأبحاث الفدرالي في مكتبة الكونجرس، عن العديدِ من البلدان إن لم نقل معظم أو حتّى كلّ البلدان. أتعرّض هنا إلى طبعة عام ١٩٨٨ وهي ليست الأولى، ويمكن بفضل CIA (وكالة المخابرات المركزيّة) تحديث بعض المعلومات فيها. الكتابُ متوافرٌ بالمجّان للتحميل.

يبلغ عدد صفحات الكتاب حوالي ٣٥٠، يتخلّلُها عددٌ لا بأس بهِ من الخرائط، والصور بالأبيض والأسود، والمخطّطات، والجداول. كثيرٌ من هذه المعطيات سوريّ المصدر، سواءً من أشخاص أو مؤسسّاتٍ حكوميّة. لا داعي لأن نوافق على آراء المؤلّفين السياسيّة كي نعترف أنّ هذه الدراسة كنزٌ من المعلومات، وأنّها عملٌ أكاديمي ومهني قلَّ نظيرُهُ باللغة العربيَة. أضف إلى ذلك عزوف معظم الكتّاب العرب والسورييّن عن الخوضِ في كثيرٍ من المواضيع التي تناولتها، ولأسبابٍ غنيّةٍ عن التعريف.

يتوزّع العمل على خمسة فصول، الأوّل مخصّص للتاريخ منذ البدايات وحتّى عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد. الفصل الثاني مكرّسٌ للجغرافيا، والمجتمع، والمكوّنات الدينيّة والطائفيّة للشعب السوري، والتعليم، والصحّة. الفصل الثالث يعالج الاقتصاد بمختلف قطاعاتِهِ، والرابع الحكومة والسياسة، والخامس والأخير الأمن القومي بما فيه علاقة سورّيا مع جيرانها، المعارضة ضدّ الحكومة، الجيش والقوّات المسلّحة، و"رعاية سوريّا للإرهاب" بين أبو نضال ونزار هنداوي مروراً بالأحزاب اللبنانيّة.

بلغ عدد سكَان سوريا ١٠٫٦ مليون نسمة عام ١٩٨٦، منهم ربع مليون لاجئ فلسطيني. تزايدَ السكّان بمعدّل ٣٫٧٪، ممّا يعني أنَ معظم السورييّن كانوا (ولا يزالون) من الشباب. قُدِّرَت نسبةُ المسلمين بحوالي ٨٥٪، منهم ١٣-١٥٪ من العلوييَن؛ أمّا عن المسيحييَن فشكّلوا قرابة ١٠٪ ، بينما أعطى المؤلّفون الدروز نحو ٣٪ من الإجمالي. بالنسبة لتعداد القوَات المسلَحة وقتها فسأوردها كما في المصدر وإن خامرني بعضٌ من الشكّ في دِقّتِها: الجيش النظامي ٣٩٦٫٠٠٠ مع ٣٠٠٫٠٠٠ احتياط، القوى الجويّة ١٠٠٫٠٠٠ نظامي و ٣٧٫٠٠٠ احتياط. شكّلت نفقات الجيش ٤٢٪ من إجمالي مصاريف الحكومة. امتلكت سوريّا ٤٫١٠٠ دبَابة مع ٦٥٠ طائرة مقاتلة.

استندت بنية الحكومة السوريّة على دستور ١٣ آذار ١٩٧٣ الذي نصّ على وجوب كون الرئيس مسلماً، عربيّاً سوريّاً، وبالغاً من العمر ٤٠ سنة على الأقلّ. أعطى الدستورُ الرئيسَ صلاحياتٍ هائلة: ليس فقط كرئيس السلطة التنفيذيّة، وإنّما أيضاً القائد الأعلى للقوَات المسلّحة. يستطيع الرئيس تعيين وإقالة أي ضابط وأي وزير بما فيهم رئيس مجلس الوزراء. بإمكان الرئيس أيضاً أن يحلّ مجلس الشعب، ويستلمَ السلطة التشريعيّة بشكل مؤقّت إذا دعت الحاجة. أضف إلى كلّ ما سبق أنّه الأمين العام لحزب البعث، وبوسْعِهِ إذا تعرّضت البلاد للخطر أن يستحوذ على صلاحياتٍ استثنائيّة (حسب المادة ١١٣) تجعله فوق كل القوانين.

على الصعيد الاقتصادي شَهِِدَت فترة منتصف الثمانينات انهيار أسعار النفط، وتدهور حجم الصادرات السوريّة ومعها قيمة الليرة، ودخول البلاد في عهد تقشّفٍ، وإن ساعدها على عبور الأزمة بشكل أو بآخر اكتشاف كميّات لا بأس بها من النفط قرب دير الزور. على الصعيد السياسي لدينا الحرب الأهليّة اللبنانيّة، والصراع السوري - الإسرائيلي، وتوتّر العلاقات مع العراق وتركيّا، والمد والجزر في العلاقات مع الأردنّ ومنظّمة أو بالأحرى منظّمات التحرير الفلسطينيّة ممّا لا يمكن تغطيتهُ في هذه العُجالة.

Tuesday, June 20, 2017

دليل دمشق ١٩٤٩ (روحي جميل)



ما أقلّ الكتب السياحيَة وغير السياحيَة عن دمشق مقارنةً مع أي عاصمة أو حتّى مدينة متوسّطة في أوروپّا الغربيًة، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار تاريخَ المدينة الطويل وعراقتَها وغناها بالمعالم الأثريًة والكنوز الفنيًة.

هذا الكتيّب الصادر بالإنجليزيَة عن Librairie Universelle في لبنان عام ١٩٤٩ محاولةٌ لسدّ هذه الثغرة. المؤلّف روحي جميل، له عدّة كتب عن لبنان وسوريَا وإن لم أنجح في تقصّي سيرتِهِ. الكتاب "دمشق بوّابة عالم" Damascus Gate of a World ينتمي إلى سلسلةٍ Green Guide Books الموجّهة للسيَاح. الكرّاس من كتب الجيب الصغيرة الحجم (١١ في ١٥ من عشيرات المتر)، موزّع على قرابة ٧٠ صفحة تتخلّلها ٨ لوحات من الصور الضوئيّة بالأبيض والأسود لبعض أشهر معالم المدينة: الجامع الأموي، قصر العظم، التكيّة السليمانيّة، الجامعة السوريّة، فندق الشرق، الكنيسة المريميّة، ساحة المرجة، وبناء مؤسّسة مياه عين الفيجة. المصوَرون جورج درزي، بوياجيان، Gulbenk. يحتوي الدليل أيضاً على خريطةٍ مطويّةٍ للمدينة (٢٤ في ٣٥ عشير المتر).

قدّرَ المؤلّفُ عددَ سكَان المدينة بحوالي ٣١٠٬٠٠٠ نسمة. هناك لمحةٌ جغرافيّةٌ سريعة عن دمشق ووادي بردى، ومن ثمّ استعراض لتاريخ عاصمة سوريّا يتجاوز ١٥ صفحة، بدايةً من الأصول التي تختلط فيها الحقائق مع الأساطير، ونهايةً بما أسماه الكاتب "النظام الجديد"، عندما "استلم قائد الجيش السوري الحكم" في ٣٠ آذار ١٩٤٩ و"استقال رئيس الجمهوريَة" في ٦ نيسان. المقصود طبعاً إنقلاب حسني الزعيم، الذي عيّن لجنةً لكتابة دستور للبلاد، صُدِّق بعد "استفتاء شعبي". من "منجزات" النظام الجديد إلغاء الأوقاف الذريّة وتدشين قانون مدني جديد وانتهاج سياسة التعاون على الصعيد الدولي وفقاًَ "لروح ميثاق الأمم المتحدة". ما علينا.. الكتاب بالنتيجة سياحي بالدرجة الأولى وأشكّ أنّ زائر ذلك العهد أعار السياسات المحليَة السوريّة أو حتّى الشرق أوسطيّة الكثيرَ من الاهتمام، هذا إذا قرأ الأسطر التي تعرّضت لها على الإطلاق.

الشطر الأكبر من الكتاب مخصّصٌ لزيارةٍ ممنهجة للمدينة، تبدأ من ساحة المرجة، ومن ثمّ القلعة وسوق الخجا، يليها سوق الأروام والحميديّة والعصرونيّة، فالبيمارستان النوري، والجامع الأموي وضريح صلاح الدين، والمدرسة الظاهريّة والعادليّة، والخانات العديدة وأشهرها طبعاً خان أسعد باشا في سوق البزوريّة قرب قصر العظم. وصف الكاتب هذه المعالم باختصار وتعرّض لتاريخِها قَدَر الإمكان. يتابع القارئ أو السائح جولَتَهُ خارجاً من باب الجابية ومبتعداً عن مركز المدينة، باتّجاه حيّ الميدان وطريق قافلة الحجَ، مروراً بجامع سنان باشا ومقبرة الباب الصغير، إلى جامع مراد باشا والمصطبة أو الزاوية السعديّة، نهايةً ببوّابة الله.

ننتقل بعد إتمام هذه الجولة إلى الأحياء الغربيّة: شارع النصر وجامع تنكز ومحطّة الحجاز في القنوات، إلى الجامعة السوريّة (سابقاً الثكنة أو القشلة الحميديّة) والتكيّة السليمانيّة والمتحف الوطني. الخطوة التالية زيارة الحيّ المسيحي (باب توماّ) والتعرّف على بعض الكنائس خاصة المريميّة وحنانيا مع ذكر خاص لبيت شاميّة.

بعد استعراضٍ سريع لحيّ الصالحيّة وجامع الشيخ محيي الدين، نبدأ بزيارة "المدينة الحديثة" من المرجة إلى جسر ڤيكتوريا فشارع فؤاد الأوَل (بور سعيد حاليَاً). إذا أخذنا ترام رقم ٤ من المرجة إلى المهاجرين فسنمرّ بالتجهيز والپرلمان ونرى على اليسار "شارع بريطانيا" (أبو رمَانة). يتابع الراكب إلى محطّة عرنوس، وعلى يساره الشارع المؤدّي إلى حيّ الروضة الأنيق ومن ثمّ إلى الجسر الأبيض والمهاجرين نحو القصر الرئاسي نهايةً بآخر الخطّ تحت قبّة السيّار.

لا يخلو هكذا دليل من الدعايات، وأهمُّها لشركة طيران Pan American، والبنك العربي المحدود (مركره في "القدس فلسطبن")، وشركة أصفر وسركيس (تحف وسجّاد وأقمشة ومجوهرات)، وحلويّات غراوي، والمخزن الهندي الشرقي (حرير وسجّاد وغيرها).

Sunday, June 18, 2017

دليل الجندي الأمريكي إلى سوريّا ١٩٤٢



قاتَلَت الولايات المتّحدة الأمريكيّة في الحرب العالميّة الثانية على عدّة جبهات من أقصى الأرض إلى أقصاها. شَهِدَت سوريّا لفترةٍ قصيرة عام ١٩٤١ الصراعَ بين الإنجليز مع حلفائِهم من الفرنسييّن الأحرار من جهة، وقوّات Vichy من جهةٍ ثانية. لم يكن لأمريكا دورٌ في هذه المعركة بالذات وإن تحسّبَ المسؤولون فيها لإمكانيّة نشرِ جيوشهم إلى الشام، ومِنْهُ قرار قطاعيّ الحرب والبحريّة بطباعة دليل مختصر عن سوريّا عام ١٩٤٢، وتوزيعِهِ على الجنود. بالطبع ما هذا الدليل إلّا أحد عشرات الأدلّة المماثلة لمُخْتَلَف البلدان.

الكتيّب صغير الحجم (١١ في ١٣ من عشيرات المتر)، ضئيل الوزن، يسهُلُ وضعُهُ قي الجيب، ناهَزَ عددُ صفحاتِهِ الستّين، خُصِّصَ قسمٌ لا بأس بِهِ منها لتعليم الجندي بعض العبارات الكثيرة الاستعمال في الحياة اليومية وكيفيةَ لفظِها بعربيّة معقولة أو على الأقلّ مفهومة. هدف المنشور بالدرجة الأولى كسب ودّ السورييّن في الحرب ضد هتلر الذي "يسعى إلى السيطرة على العالم". ذكَّرَ الدليلُ القرّاءَ أنّ الكثير من السورييّن تلقّوا العلم في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، وأنّ سوريا بلدٌ صديق، وأنّ السورييّن يحبّون الأمريكيّين بدلالة محاولتهم وَضْعَ أنفسِهِم تحت انتداب أمريكي في أعقاب الحرب العالميّة الأولى، وأنّهم بالتالي سيرحّبون بالجيش الأمريكي بكل تأكيد. كما يتّضح من الخريطة المُرْفَقَة، سوريّا تشمل لبنان ناقص لواء اسكندرون. هناك ذكرٌ مختصر لفلسطين.

عرّفَ الكاتبُ أو الكتّاب بضعاً من أهمّ المدن السوريّة باختصار: بيروت ملتقى الغرب مع الشرق، اللاذقيّة تزرع التبغَ الممتاز المُسْتَعْمَل في بعض الماركات الأمريكيّة، إلى آخِرِهِ. نالت دمشق حصّة الأسد في صفحةِ ونيّف. تحدَّثَ الباب التالي عن السورييّن البالغ عددهم ٣٫٥ مليون، منهم ربع مليون بدوي يعيشون على لحوم وألبان حيواناتِهِم، وتقتصر كماليّاتُهُم على القهوة والسكّر والتبغ. نَصَحَ الدليلُ القارئ في أكثر من موضع أن يتجنّب أي مناقشة في الدين، وذَكَرَ باختصار أركانَ الإسلام، وطلب من الجندي أن يعامل المسلمين برفق في شهر رمضان وأن يتوقّع سوءَ مزاجِهِم وتوتّر أعصابِهِم وعجزِهِم عن العمل بكفاءة خلال الصيام. بالطبع ليس كل السورييّن مسلمون.

أهرق الكاتب كميّةً لا بأس بها من المداد لتعليم الجندي الأمريكي أصولَ التعامل مع السورييّن اخترتُ منها ما يلي:

- لا تَضْرِب السوري وتذكّر أن الكثير من السورييّن يحملون الخناجر ويستعملونها بمهارة.
- لا تتبوّل أمام السوري.
- لا ترفض السيجارات أو القهوة عندما يقدّمها مُضِيفُك، وارتشف فنجانَكَ حتّى الثمالة.
- لا تغازل أو تتحرّش بالنساء وفي كلّ الأحوال لن نتجح مساعيك. البغايا يلتزمن أماكناً معيّنة ولن تجدهنّ في الشوارع.
- لا تبصق بالقرب من جامع ولا تدخّن.
- لا تتعرّى أمام السورييّن.
- لا تأكل الخنزير أمام السورييّن ولا تشرب الكحول ولا تقدّمه لهم.
- اطرق الباب عندما تدخل إلى بيت وإذا أجابتك امرأة، أعطها ما يكفي من الوقت لتنسحب.
- لا تجلب الكلاب إلى بيوت السورييّن.
- عندما تتعرّف على سوري اسأله عن صحّته.
- كن لطيفاً مع الشحّاذين وأعطهم بعض الفكّة (الفراطة).
- ساوم على الأسعار ولكن كُن مهذّباً.
- استعمل عقلَكَ وحُسْنَ محاكمتِكَ وتذكّر أنك ممثّلٌ غير رسمي لبلادِك وسفيرٌ لنواياها الحسنة.

ختاماً هناك بعض المعلومات المفيدة كالتعريف بالعملة المحليّة (الليرة السوريّة تعادل ٤٦ سنت أمريكي والليرة الفلسطينيّة ٤ دولارات)، والتقويم الهجري، والأوزان، والمقاييس.

Saturday, June 17, 2017

دمشق ترحّب بكم


صدّق أو لا تصدّق: بإمكانك الحصول على خارطة كبيرة ومفصّلة لمدينة دمشق لقاء ثلاث ليرات سورية (أو دولار أمريكي واحد) فقط لا غير، بشرط أن تشتريها عام ١٩٥٤ عندما صدرت عن المكتب السوري السياحي للمعلومات، الواقع شارع فؤاد الأوّل (بورسعيد حاليّاً). الليرة في ذلك الوقت فضيّة، كما هو حال نصف وربع الليرة.

لتوخّي الدقة، يحتوي الكتيّب على خريطتين للمدينة: الأولى لدمشق الكبرى مع ضواحيها (٦٠ في ٩٠ من عشيرات المتر)، والثانية (على قفا الأولى) بدقّةٍ أعلى للمدينة القديمة (٣٠ في ٥٥ عُشَيْر المتر) مع فهرسٍ لمعالمِها التاريخيّة والحديثة. الدليلُ ككلّ قطعةٌ من الورق السميك، أبعادُها ٨٦ في ١١٤ عشير المتر، قابلةٌ للطيّ طولاً وعرضاً (٩ في ٤) بحيث تبلغ الأبعاد النهائية للكرّاس المطوي ١٣ في ٢٢ عشير المتر.

تحيطُ خريطةَ مدينةِ دمشق ١١ صورة بدقة جيّدة بالأبيض والأسود لمختلف معالم المدينة، منها الجامع الأموي والتكيّة السليمانيّة وقصر العظم والجامعة السوريّة (سابقاً الثكنة أو القشلة الحميديّة) والشارع المستقيم وسوق الحميديّة وحديقة السبكي؛ وعلى اعتبار أنّ هذا الدليل موجّهٌ للسيّاح أوّلاً وآخراً فهو يتضمّن الكثير من المعلومات والعناوين المفيدة: من البنوك الغربيّة مثل British Bank of the Middle East و Crédit Lyonnais، والعربيّة ومنها بنك مصر وسوريّا ولبنان والبنك العربي المحدود (له فرع في القدس)، إلى دعايات شركات الطيران Air France و KLM (الهولنديّة)، ووكالات النقل والسياحة بما فيها الكرنك ووكالة سعادة للسفر ذات الملكيّة والإدارة الأمريكيّتين (شارع بغداد) التي نظّمت جولاتٍ في الأماكن المقدّسة المسيحيّة واليهوديّة Biblical Land Tours، ونزلاً hostel لمن لم يرغب أو لم يكن بمقدورِهِ ارتياد الفنادق الفخمة الحديثة مثل قطّان وأميّة والشرق واليرموك.

كافّة معلومات الدليل - الخريطة بالإنجليزيّة.

Monday, June 12, 2017

دمشق ١٧٠٨- ١٧٥٨



المؤلّف كارل بربير، خرّيج مدرسة الجالية الأمريكيّة في بيروت عام ١٩٦٦، حائز على إجازة وماجستير في تاريخ أوروپّا والشرق الأدنى من الجامعة الأميركيّة في بيروت (١٩٦٦ - ١٩٧١)، ودكتوراه في دراسات الشرق الأدنى من جامعة Princeton (١٩٧١ - ١٩٧٧). درّس بربير التاريخ في Siena College (١٩٧٧ - ٢٠١٥)، وحاضَرَ في جامعة Albany (١٩٩٢ - ٢٠١٥).
_______________________________

ينظرُ الكثيرُ من المؤرّخين، في الشرق والغرب، إلى العهد العثماني بعد موت سليمان القانوني عام ١٥٦٦ كفترة انحطاط، تدهورت فيها الإمبراطوريّة باستمرار من سيِّئ إلى أسوأ، إلى أن سقطت مع نهاية الحرب العالمية الأولى. من العدل أن يُقال أنّ هذا التقييم مجحفٌ ومبسّطٌ أكثر ممّا ينبغي، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ وفاة "الرجل المريض" - تعبيرٌ استُعْمِلَ للمرّةِ الأولى في القرن التاسع عشر - استغرقت ٣٥٠ سنة بعد وفاة السلطان المذكور، ومن حقِّنا بالتالي التشكيك في كون "الرَجُل" مريضاً إلى هذه الدرجة. أضِف إلى ذلك أنّ الإمبراطوريّة العثمانيّة لم تكن الوحيدة التي سقطت عام ١٩١٨، الذي شَهِد أيضاً انهيار ثلاثٍ من الإمبراطوريّات المرهوبة الجانب: أعداء العثمانييّن التاريخييّن في روسيا والنمسا، وحليفتها في الحرب العظمى ألمانيا. لِمَ لا نحاول تحليل أسباب ديمومة الإمبراطوريّة العثمانيّة عوضاً عن أسباب سقوطِها؟ تماماً كما في حالة الإمبراطوريّة الرومانيّة التي سَبَقْتها.

لا ريبَ أنّ القرن السادس عشر شَهِدَ أوجَ الإمبراطوريّة العثمانيّة، عندما كانت ليس فقط أقوى الإمبراطوريّات الإسلامية الثلاث (الأخريتان الصفويّة في إيران والمغوليّة أو التيموريّة في الهند)، وإنّما أيضاً أشدّ ممالك أوروپّا بأساً، خاصّة بعد احتلالها المجر في أعقاب معركة Mohács عام ١٥٢٦، ومن ثمّ حصار Vienna الأوّل عام ١٥٢٩. تزايدت التحدّيات لسلطة القسطنطينيّة في القرن السابع عشر، بيد أنّها استمرّت في حكمِ أراضٍ شاسعة في أوروپّا وشمال أفريقيا وجنوب غرب آسيا، واستطاع العثمانيّون حصار Vienna للمرّة الثاتية عام ١٦٨٣، وإن تكلّلت جهودُهم بالفشل إثر سلسلةٍ من الهزائم كرّستها معاهدة Karlowitz عام ١٦٩٩ التي خسر بموجِبِها العثمانيّون المجر إلى غير رجعة.

________________________________

ركّز الأستاذ Karl Barbir، في هذا الكتاب الصادر عن Princeton University Press عام ١٩٨٠، على دمشق العثمانيّة في القرن الثامن عشر، معتبراً - عكس أغلب الأخصائييّن - أنّ هذا القرن أو على الأقلّ نصفهُ الأوّل، لم يكن بهذه الدرجة من السوء: على الصعيد الدولي هَزَمَ العثمانيّون بطرس الأكبر الروسي وجمهورية البندقيّة، ونجحوا في استعادة بلغراد؛ بخصوص دمشق - موضوع الكتاب - أجروا مجموعةً من الإصلاحات لتقوية السلطة المركزيّة، واحتواء الجماعات المحليّة (الأعيان والإنكشاريّة والبدو)، وتنظيم قافلة الحجّ لتعزيز مكانة السلطان "كخادم للحرمين".

أسهمت دمشق في حروب الإمبراطوريّة اللامتناهية ضمن أضيق الحدود، وعلى سبيل المثال أرسلت المدينة ٥٠٠ رَجُل للمساهمة في الحملة الأوروپيّة وحصار Vienna عام ١٦٨٣، بينما بلغ تعداد الجيش العثماني ككلّ ٣٥٠٬٠٠٠ جندي. ترتّب على ذلك قرار السلطة المركزيّة في مطلع القرن الثامن بإعفاء والي الشام من مساهمةٍ متواضعة لا تقدّم في المجهود الحربي ولا تؤخِّر، وتحميلِهِ عوضاً عن ذلك مسؤوليّة الإشراف على قوافل الحجّ وتزويدِها بحوائجِها، وجباية الضرائب اللازمة، وحمايتِها (خصوصاً من غارات البدو). نَجَحَ الولاةُ عموماً في أداء هذا التكليف البالغ الأهميّة من الناحية المعنويّة اعتباراً من عام ١٧٠٨، عندما تولّى نصوح باشا مقاليد الأمور، وحتّى ١٧٥٧ عندما هلك الألوف من الحجّاج من الحرّ والعطش وهجمات البدو. شّك الباب العالي بضلوع أسعد باشا العظم في هذه الكارثة التي كلّفَتهُ بالنتيجةِ رأسَهُ.

هيمن آل العظم على ولاية دمشق لفتراتٍ مديدةٍ نسبيّاً في مطلع ومنتصف القرن الثامن عشر، مما دَفَعَ الكثيرَ من المؤرّخين إلى ربط صعود نجم هذه الأسرة مع تدهور السلطة المركزيّة. أدلى الدكتور بربير بوجهةِ نظرٍ مخالفة، مفادُها التزام ولاة العظم بتنفيذِ سياساتٍ رُسِمَت خارج دمشق، في الأستانة، وإن عزّزوا نفوذَهم وجمعوا الثروات في نفس الوقت. لم تكن الشام - خلافاً لمصر - في وارد محاولة الاستقلال عن القسطنطينيّة، لا إسماً ولا فعلاً، اللهمّ إلّا لفتراتٍ قصيرة وتحت ظروفٍ معينة.

______________________________

فَقّدَت العاصمة مع نهايات القرن الثامن عشر زمام المبادرة تحت الضغوط الخارجيّة (الحروب مع روسيا القيصريّة ومن ثمّ حملة بوناپارت)، والداخليّة (تمرّد المغامرين من أمثال ظاهر العمر)، واضطرّت إلى إعطاء المزيد من حريّة التصرف للولاة وعلى رأسِهِم الجزّار باشا. قصّةُ القرن التاسع عشر وعهد التنظيمات ودمشق قبل وبعد ١٨٦٠ خارجةٌ عن نطاق هذه الدراسة.

Sunday, June 11, 2017

والتر في دمشق



اختلطت الحقيقةُ مع الخيال في هذا الكتيّب الذي صدرت طبعتُهُ الأولى عام ١٨٦٤. المؤلّف Daniel Clarke Eddy رَجُل دين وسياسي وكاتب أمريكي من مواليد Massachusetts عام ١٨٦٤، ووفيّات Brooklyn نيويورك عام ١٨٩٦. الكتاب (حوالي ٢٢٠ صفحة من القطع الصغير، ١٧ في ١١ من عشيرات المتر) متوافرٌ للتحميل بالمجّان.

يحسن هنا التنويه أنّ هذا العمل يخاطبُ جمهوراً غربيّاً مسيحيّاً بالدرجةِ الأولى والأخيرة، ليس فيه من "اللباقة السياسيّة" لا كثيراً ولا قليلاً، ولا مبالغة في وَصْفِهِ بالعنصريّة بمقاييس القرن الحادي والعشرين، وإن كان عاديّاً بمعايير القرن التاسع عشر، يعكسُ عقليّةَ أهلِ زمانِهِ ومكانِهِ.

"البطل" Walter شابٌّ يافعٌ حادّ الذكاء وطالب عِلْم "ولو في سوريّا". زار Walter دمشق بصحبةِ رهطٍ من الأمريكان، أحدّهُم واعظٌ ضليعٌ، يعرف عن الشرق والإسلام أكثر بكثير من الأغلبيّة الساحقة من الغربييّن، وإن كانت معلوماتُهُ ممزوجةً بفوقيّةٍ واستعلاء.

جرت هذه الزيارة، على الصعيد الأمريكي، بعيد نشوب الحرب الأهليّة، عندما طَرَدَ الجنرال الجنوبي Pierre Beauregard الشمالييّن من قلعة صمتر (صفحة ١٤)؛ وأتت على الصعيد المحلّي في أعقاب مجزرة ١٨٦٠. الكاتب شمالي من أنصار شمال أمريكا، ومسيحي حتّى النخاع، اهتمامُهُ بسوريّا ودمشق عائدٌ بالدرجة الأولى إلى مكانتِهِما البارزة في التاريخ والأدب المسيحيَيّن.

نزل ضيوف دمشق الأمريكييّن في فندقٍ شامي متواضع المظهر من الخارج وجميلٌ للغاية من الداخل. تمركز هذا النُزْل، شأنه في ذلك شأن البيوت الشاميّة التقليدية، حول الديار والبحرة في وسطِهِ. طاف الزوّارُ أسواقَ المدينة، ومقبرة الباب الصغير، والجامع الأموي وأحد الحمّامات، ومقهى مغربي رقصت فيه "العالمة" وغنّت المغنّيات على إيقاع الدربكة وأنغام الآلات الشرقيّة أمام المشاهدين من مرتشفي القهوة ومدخّني الأركيلة.

لم يُحْدِث الجامع الأموي لدى زوّارنا الأفاضل الانطباعَ المأمول، ولم ينس الكاتب بالطبع تذكير قرّائِهِ أنّه كان كنيسةً مسيحيّة قبل أن يهدمها الوليد ويبني الجامع مكانها؛ أضاف المؤلّف (صفحة ١٢٣) أن هيكل رمّون (يعادل الإله السامي "بعل") المذكور في سفر الملوك الثاني (الإصحاح الخامس، الآية الثامنة عشرة)، كان بالتأكيد أجمل من البناء الحالي، واستطرد بالقول (صفحة ١٢١) أنّ "المسلمين الحمقى" يعتقدون أن المسيح سيقف على مئذنة عيسى يوم القيامة. تفوّق المستر Eddy على نفسه في سياق حَدِيثِهِ عن زيارة "الحمّام التركي"، عندما أكّد، بوقاحةٍ وصفاقة وجه أقرب إلى البلاهة (صفحة ١٥٤) أنّ "العرب، على الرغم من كونِهِم شعبٌ قذرٌ للغاية، يستحمّون كثيراً".

زار الأمريكيّون الحيّ المسيحي المنكوب. المسيحيّون الشرقيّون عموماً "موارنة"، قد لا تعترف أمريكا "بمسيحيّتهم" (صفحة ٥٨)، وفي كلّ الأحوال لم يبقَ في دمشق، بعد قتل عشرين ألف مسيحي عام ١٨٦٠، إلّا المسلمين واليهود. أضاف الكاتب (صفحة ١٠٣) في إشارةٍ إلى أحداث لبنان، أنّ ١٦٠ "مدينة" أُحْرِقَت، وأنّ عشرة آلاف إنسان قُتِلوا، وأن ٢٥٠٠٠ امرأة سُبين وبيعنَّ جوارياً للأتراك. مع ذلك أشاد الكاتب، كغيرِهِ من الشرقييّن والمستشرقين، بدور الأمير عبد القادر في هذه المأساة، وإن تلخّصَ رأيُهُ في المسلمين المتدينيّن بشكلٍ عامّ (صفحة ٢٠٦)، في ترجمةٍ تقريبيّة للقول الشامي المأثور "إذا حجّ جارك بيع دارك، وإذا حجّ مرتين بيعو بالدين".

سَبَقَت الإشارة أنّ المؤلِفَ ملمٌّ بالتاريخ الإسلامي إلى درجةٍ ملفتةٍ للانتباه، بدلالة ما كَتَبَهُ عن النبي محمّد، وزوجاتِهِ (خديجة وعائشة وبالطبع ما كان له أن ينسى تذكيرَنَا - صفحة ١٧٥ - أنّ عمر هذه الأخيرة لدى عقدِ قِرانِها لم يتجاوز السبع سنوات)، وغزوات بَدْر وأُحُد والخندق وخَيبر، والإسراء والمعراج، ومحاولة قريش اغتيال الرسول، والملذّات التي وعد الله بها المؤمنين في الجنّة، وهلمّجرّا.

لاقى الكتابُ على علّاتِهِ، أو لربّما بسبب هذه العلّات، رواجاً لا بأس به، وأُعيدَت طباعَتُهُ. الكاتبُ غزيرُ الإنتاج في عدّة مجالات. أحد كتب الترحال التي ألّفَها عن القسطنطينيّة، وآخر عن أثينا وثالث عن مصر ، إلى آخِرِهِ.



Saturday, June 10, 2017

دمشق تحت المماليك



كتيّب أنيق، صغير الحجم (١٣ في ١٩ من عشيرات المتر)، صفحاتُهُ بما فيها المقدّمة والفهارس ١٦٠، صَدَرَ عن جامعة أوكلاهوما عام ١٩٦٤. الكاتب الدكتور نقولا زيادة (١٩٠٧ - ٢٠٠٦) دمشقيّ المولد، له عدّة مؤلّفات بالعربيّة والإنجليزيّة.

حَكَمَ المماليكُ مصر اعتباراً من ١٢٥٠ حتّى ١٥١٧، وسوريّا بدايةً من ١٢٦٠ إلى ١٥١٦. أي الفترة الواقعة بين نهاية العهد الأيّوبي وبداية العثماني. تعني كلمة المملوك "عبد"، وتستعمل عادة للعبيد البيض. المماليكُ بالأصل عبيدٌ ابتيعوا في أسواق النخاسة، أو أُسرِوا في حروبٍ ضد "الكفّار"، على اعتبار أنّ استعباد المسلمين، على الأقلّ نظريّاً، من المنكرات. درّبَ سلاطينُ الأيوبييّن وغيرُهُم مماليكَهم في فنون الحرب، واستخدموهم عسكراً وضبّاطاً، إلى أن اكتشف هؤلاء - كما حصل في حالة الحرس الپريتوري Praetorian Guard في عهد الرومان مثلاً - أنّ الحلَّ والربطَ في نهاية المطاف في أيديهم، وأنّ من يحمي السلطان، يستطيع إذا أراد أن يدعم سلطاناً آخر، أو حتّى أن يحلّ محلّ سيّدِهِ؛ وهكذا ولِدَت إحدى أغرب امبراطوريّات القرون الوسطى المحكومة من الملوك - المماليك، بتعبيرٍ آخر الملوك - العبيد.

سقطت بغداد عام ١٢٥٨ على يد المغول، ومَعَها الخلافةُ العبّاسيّة. أراد السلطان الظاهر بيبرس (١٢٦٠ - ١٢٧٦)، المؤسّس الحقيقي لإمبراطوريّة المماليك، إضفاءَ الشرعيّةِ على ملْكِهِ، فجلب أحد سليلي آل عبّاس إلى القاهرة وأعلَنَهُ خليفةً. بالطبع كان هذا الخليفة المزعوم "رجل كرسي" في أحسن الأحوال، مهما أحاطَهُ السلطان بآيات التعظيم والتبجيل.

تجاوزت تغطية الكتاب، على صِغَرِ حجمِهِ، فترةَ المماليك، لتتطرّق إلى تطوّر دمشق وأحيائِها منذ البدايات. تزايدت المعلومات اعتباراً من عهد نور الدين ومروراً بالأيّوبييّن. اعتمَدَ الدكتور زيادة في عَمَلِهِ على روايات الرحّالة المسلمين: ابن جبير الأندلسي الذي زار دمشق عام ١١٨٤ أدقُّهُم على الإطلاق، وابن بطوطة في القرن الرابع عشر. استند المؤلِّف أيضاً على الأوروپيّين وكتابات المؤرّخين، وتعرّضَ ليس فقط إلى تجارةِ المدينة وأسواقِها ومعابِدِها ومدارِسِها ومشافيها وسائرِ معالِمِها، وإنّما أيضاً الكوارث التي أصابتها عندما هاجمها المغول بقيادة غازان أو قازان (أوّل من اعتنق الإسلام من أباطرة المغول) عام ١٢٩٩-١٣٠٠ في عهد ابن تيميّة، ومن ثمّ تيمورلنك الورِع ١٤٠٠-١٤٠١ الذي عاصرت جائحَتُهُ زيارةَ ابن خلدون للمدينة.

يتوزّع الكتاب، بعد المقدّمة، على سبعة فصول: أوّلها تعريفٌ بالمماليك؛ الثاني عن عهد صلاح الدين مع التركيز على زيارة ابن جبير؛ الثالث استشهادات من الرحّالة الأوروپيّين ومنهم Niccolò da Poggibonsi في منتصف القرن الرابع عشر، و Giorgio Gucci الفلورنسي بعده بقليل، و Bertrandon de la Brocquière في مطلع القرن الخامس عشر وغيرهم؛ الفصل الرابع وصفٌ للمدبنة وضواحيها؛ الفصل السادس عن الشؤون الإداريّة.

الفصل السابع والأخير متعلِّقٌ بالحياة الفكرية، التي لا يمكن فصلُها، خصوصاً في ذلك العهد، عن الحياة الدينيّة. اعتبَرَ الكثيرون القرن العاشر الميلادي "قرناً شيعيّاً" إذا جاز التعبير: البويهيّون في العراق وإيران، الحمدانيّون في حلب، والفاطميّون (الإسماعيليّون) في سوريّا الجنوبية ومصر وشمال أفريقيا. مع ذلك بقيت أغلبيّةُ المسلمين سنيّةً، على الرغم من مذهب الحكّام. شَهِدَ القرن الحادي عشر ردّة فعل سنيّة تحت السلاجقة، وتابع الأتابك نور الدين مكافحة "الرافضة"، ثمّ أجهز صلاح الدين على الخلافة الفاطميّة في مصر وأعاد الدعاءَ على المنابر للخليفة العبّاسي المغلوب على أمرِهِ. استمرّ المماليك في هذه السياسة، وصعد في عَهْدِهِم نجمُ الفقيه الحنبلي ابن تيميّة الدمشقي (١٢٦٣ -١٣٢٨). خَتَمَ الدكتور زيادة بالقول أنّ وضعَ حنابلة دمشق تدهور بعد الغزو العثماني، كون الفاتحين الجُدُد على مذهب أبي حنيفة. طوى النسيان ابن تيميّة في مدينَتِهِ وبَلَدِهِ أو كاد حتّى أواسط القرن الثامن عشر، وولادة الحركة "الإصلاحيّة" التي بشّر بها محمّد ابن عبد الوهّاب في نجد، وساعد على نَشْرِها آل سعود. أسّس محمّد ابن علي السنوسي في ليبيا حركةً موازيةً في القرن التاسع عشر، وأخيراً وليس آخراً، أعلن السلفي رشيد رضا، ناشر ومحرّر مجلّة المنار (العدد الأوّل ١٨٩٨)، نَفْسَهُ وريثاً لأفكار ابن تيميّة الذي لا مبالغة في اعتبارِ أَثرِها بعد مماتِهِ أهمّ وأخطر منه في حياتِهِ.

كنوز النحت الروماني في متحف دمشق

  


الكتابُ حصيلة تعاون سوري - فرنسي - ألماني، الغايةُ مِنهُ تصنيف ووصف كتابي، مع الصور الضوئيّة، لبعض أهمّ مقتنيات النحت في متحف دمشق من العهد الروماني. عام النشر ٢٠٠٦، والمفروض أنّ العمل "جزء أوّل" من سلسلةٍ من الكتب المتعلِّقة بتوثيق موجودات المتحف من سوريّا المركزيّة والجنوبيّة.

المؤلف الآثاري الألماني Thomas M. Weber بالتعاون مع السيد قاسم المحمّد (رئيس قسم الحقبة الكلاسيكيّة في المتحف)، والكتاب مُهْدَى إلى ذكرى مدير قسم الفن الروماني واليوناني الدكتور سليم عبد الحقّ وقرينته السيدة آندريه، والسيّد أنطوان ميخائيل المقدسي الذي كان مسؤولاً عن مديريّة الترجمة والتأليف في وزارة الثقافة لعشرات السنوات في النصف الثاني للقرن العشرين.

عدد فصول الكتاب خمسة: الأوّل ببحث في آثار دمشق ومحيطها، الثاني لآثار النقرة Batanaea أو باشان، الثالث اللجاة أو Trachonitis (بين درعا والسويداء)، الرابع الجولان، والخامس (الأطول) حوران وجبل العرب. يبدأ كل فصل بلمحة تاريخيّة وجغرافبّة مع خريطة مفصّلة، يليها وصفٌ دقيق (أشبه بكتب التشريح) لكل تمثال وكل نقش استناداً إلى صورٍ جيّدة وغالباً من عدّة زوايا بالأبيض والأسود. تشغلُ اللوحات والصور والمصورّات نصف صفحات المجلّد البالغ عددها حوالي ٢٠٠ من القطع الكبير (٣٠ في ٢١ من عشيرات المتر).

إذا جاز لي النقد، هناك على الكتاب مأخذان: الأوّل أنّه لا يورد أسماء المواقع بالأبجديّة العربيّة، مع أنّه يستعمل الأبجديّة اليونانيّة عندما يصفها على بعض النقوش. قد يسبّب هذا التباساً في بعض القرى والمواقع الصغيرة الأقلّ شهرةً. المأخذ الثاني كثرة الأخطاء في النحو وتركيب الجمل وأسلوب صياغتها الركيك، ناهيك عن الأغلاط المطبعيّة. الكاتب الألماني طلق بالإنجليزيّة والحقّ يُقال، بيد أنّه ليس متمكّناً منها. من حسن الحظّ أنّ غنى الكتاب بالصور يعوّض عن الهفوات اللغويّة ويزيل الإبهام في الغالبيّة العظمى من النماذج المعروضة. مع ذلك من المؤسف ألّا يخضع كتابٌ باذخٌ على هذه الدرجة من الأهميّة إلى مراجعةٍ وتنقيح هو بِهِ أكثر من جدير.

تبقى إيجابيّاتُ الكتاب أكثر بكثير من سلبيّاتِهِ. لم يكتفِ المؤلّفُ بعرض الصور الرائعة (وإن كانت مع الأسف غير ملوّنة)، مع وصف مِهَني مفصّل، مرفقٌ بحَسَب القطع ونَسَبِها، وكيفيّة وتاريخ العثور عليها ومن ثمّ اقتنائها من قِبَل المتحف، بل أضاف إلى كلِِّ ذلك مقارنةَ العاديّات مع مثيلاتِها في المتاحف العالميّة، والتنويه ببعض الآثار التي اكتُشِفَت في القرن العشرين وضاعت دون تفسيرٍ مقنع.

Wednesday, June 7, 2017

ما الذي جرى في دمشق عام ١٨٦٠ ومن كان المسؤول؟

"لكَ أن تبدي رأيَكَ، وليس لكَ أن تَفْرِضَ حقائِقَك". قولٌ مأثورٌ لعضو مجلس الشيوخ الأمريكي الراحل Daniel Patrick Moynihan. جميعُنا نعلم أن الآراء الفيسبوكيّة تُقدَّم بمناسبة وغير مناسبة كحقائق تتمّ مشاركتها على أوسع نطاق في وسائل التواصل الاجتماعية دون تفكير، ناهيك عن التحقّق والتدقيق، والنتيجة أن تصبح أي رواية متواترة بما فيه الكفاية قرآناً منزلاً، يستشهد به القاصي والداني لإثبات وجهةِ نظرِهِ، وإفحام الخصوم والأقران والمزاحمين بسعة عِلْمِهِ وطولِ باعِهِ وفضلِهِ.

الخطوطُ العريضة لما سُمّيَ طوشة النصارى (التسمية الأدقّ مذبحة أو مجزرة) معروفةٌ، لا داعي لتكرارها في هذه السطور القليلة. أقتصر أدناهُ على اقتباس "منشور فيسبوكي" يعود إلى العام ٢٠١٧ بحذافيرِهِ، دون تسمية صاحِبِهِ أو صاحبتِهِ، ثمّ التعليق عليه من منظورٍ شخصي هو بالنهاية ليس أكثر من رأي ضمن العديد من الآراء.

أبدأ بالإقتباس:

"تؤكد المؤرّخة الأميريكيّة ليندا شيلشر صاحبة كتاب "دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر" في نهاية الفصل الذي كتبت فيه عن أحداث عام ١٨٦٠ في دمشق أنّ تلك الأحداث لم تكن على أساس ديني أبداً حيث تقول (النصّ الملحق من الصفحة ١٢٦ من تعريب الأستاذين عمرو ودينا الملّاح والصفحة ١٠٠ من الأصل الإنجليزي):


وهذا الكتاب يُعَدُّ من المراجع المهمّة وربمّا
من أهمِّها في تاريخ سوريّا الحديث ومازال يحتلّ مكانةً فريدةً بين الكتب التي تبحث في التاريخ الحديث لبلاد الشام".

انتهى الاقتباس.


أودّ هنا إبداء الملاحظات أو بالأحرى التحفّظات التالية:

أوّلاً. أعجب هذا الپوست الكثيرين، وكانت التعليقات عليه إيجابيّةً إلى درجة العاطفيّة. ألم تقل خبيرةٌ غربيّةٌ في كتاب "يحتلُّ مكانةً فريدةً" أنّ هذه "الأحداث لم تكن على أساس ديني أبداً؟!" شَهِدَ شاهدٌ من أهلِهِ وقُضِيَ الأمرُ الذي كنتم فيه تختلفون! لتوخّي الدقة لم يكن رأي المؤلِّفة على هذه الدرجة من الوضوح، ولا بدّ في هذا السياق من التنويه أنّها كتبت فصلاً كاملاً عن مأساة ١٨٦٠، اختار منها صاحب أو صاحبة المنشور بضعة أسطر وافقت توجّهاتٍ مسبقةً معيّنة. في كلّ الأحوال لم تكن الدكتورة شيلشر المستشرقة الوحيدة التي ذهبت هذا المذهب، وأمّا عن الكتاب المحلييّن فحدّث ولا حرج. ما فات كاتب الپوست والمعجبين الكثر بهِ أنّ أغلب المستشرقين يركّزون على الخلفيّة الطائفيّة، ولكنّنا كالعادة نختار منهم من يعجبنا ونضرب بآراء البقية عرض الحائط.

ثانياً. كون "جماعة معينّة من المسيحييّن فقط تعرّضت للهجوم"، وأنّ "بعض المسلمين فقط قاموا بالهجوم"، لا ينفي أنّ جميع الضحايا عمليّاً كانوا مسيحييّن، وأن الأيدي التي تلوّثت بدمائِهِم كانت أوّلاً وأخيراً مسلمة. يستطيع من يبرّر تدمير الحيّ المسيحي بهذه الطريقة، أن يستعمل نفس الحجّة - ولربّما بقوّةٍ أكثر - لتبرير القصف الفرنسي لسيدي عامود (الحريقة) عام ١٩٢٥. نعم كانت الدول الأوروپيّة تبحث عن مصالِحِها ما في ذلك أدنى شكّ، ولربّما شرحت بعضُ ممارساتِها خلفيّةَ الفتنة، ونعم استغلّت هذه الدول المأساة لتعزيزِ نفوذِها، ولكن من قَتَلَ ونَهَبَ وأحْرَقَ وسبى سوريّون عن بكرةِ أبيهم.

ثالثاً. من المؤكّد أن مسلمي اليوم أبرياء ١٠٠٪ ممّا جرى قبل أكثر من قرن ونصف، ولا ريبَ أنّ مسيحيّي اليوم ليسو ضحايا هذه الأحداث؛ مات الجناةُ والمجني عليهم منذ أجيال، بل مات أولادُهُم وأحفادُهم. هل لنا أن ننظرَ إلى تاريخِنا بحدّ أدنى من الموضوعيّةِ والتجرّد؟ ما أشبه ما نفعَلهُ بإنكار الأتراك لمذابح الأرمن في مطلع القرن العشرين أو محاولة تسويغها بأغرب التبريرات.

رابعاً. قد يشير البعض أن تاريخ الغرب مليء بالمجازر الدينيّة وهذا قطعاً صحيح، بيد أنّ أوروپّا اليوم لا تحاول تبرئة ساحة محاكم التفتيش في إسپانيا، وتبرير الفتك بالپروتستاتت Huguenot في فرنسا، واضطهاد الكاثوليك في انجلترا، بذريعة تدخل الاستعمار والإمپريالية في شؤونِها.

خامساً. هل يجادل عاقلٌ أنّ العقليّةَ القبليّة والعشائريّة والإقليميّة والطائفيّة، لا تزال متفشّيةً في أبشع مظاهرها إلى يومنا في سوريّا و"العالم العربي" المزعوم؟ كيف نستطيع حلَّ مشكلةٍ لا نعترف بوجودِها أصلاً؟ التدخل الأجنبي كان ولا يزال وسيبقى موجوداً، ولكنّهُ ممكنٌ لأننّا ضعفاء أوّلاً، ولأنّنا نرفض النظر في المرآة ثانياً.

سادساً. ليس ما حدث عام ١٨٦٠ المثال الوحيد على مذبحةٍ طائفية في تاريخ سوريّا، ودون التطرّق إلى أحداث الحاضر. إذا كان تاريخُنا قبلَ "تدخّل الاستعمار" سلسلةً مّتصلة من التعايش الودّي بين الطوائف، علام اعتكاف العلوييّن والدروز والموارنة وغيرهم بالجبال منذ مئات السنوات؟

كلّ هذا لا ينتقص من أهميّة كتاب الدكتورة Schilcher، ولكن مع كامل احترامي لوجهة نظرها، فما هي بالنتيجة إلّا إحدى العديد من وجهات النظر التي يحسن مراجعتها إذا أردنا تسمية الأمور بمسمّياتِها ومحاولة تغيير ما بأنفُسِنا عوضاً عن الاكتفاء بلوم الآخرين.


اللوحة للفنّان البلجيكي Jan-Baptist Huysmans.

دمشق القديمة الحديثة



هجر الكثيرُ من العائلات الدمشقيّة المدينةَ القديمة، وبيوتها الشاميّة التقليدية، باتّجاه الضواحي والشقق الحديثة قبيل منتصف القرن العشرين. ترتّب على هذه العمليّة تحوّل المدينة إلى موطنٍ للمهاجرين من أبناء الأرياف، ومقصدٍ للسيّاح والمتسوّقين، وأصبحت رغم أهمّيتِها التاريخيّة والعاطفيّة والتراثيّة، مترادفةً لا شعوريّاً مع "الماضي المتخّلف". سادَ هذا الوضع حتّى أواخر الثمانينات.

المطبخ الشامي غني عن التعريف، بيد أنّهُ أقلُّ شهرةً من نظيره اللبناني أو التركي. علّ السبب، أو أحد الأسباب، يعود إلى تفضيل الدمشقييّن، إلى أمدٍ قريب، تناولَ الطعامِ في بيوتِهِم. تواجدت "أرقى المطاعم" في ضواحي دمشق الحديثة، وحتّى خارج المدينة، وكثيرٌ مِنْها قدّمت أطباقاً غربيّةً كأفضل ما لديها.

تغيّر الوضعُ اعتباراً من بداية التسعينات، عندما أعاد الدمشقيّون "اكتشاف" المدينة القديمة عن طريق المطاعم التي غزت البيوت العربيّة (من أقدمها پيانو بار في باب توما). نجحت الفكرةُ إلى حدٍّ كبير، وتكاثرت المطاعم التي ركّزت على الجو الشرقي والأطباق الشرقيّة إلى درجة أنّ إدارة شيراتون على سبيل المثال، تبنّت بالنتيجة هذا النمط الشرقي الذي أثبتَ نَفْسَهُ، وكانت المسألةُ مسألةَ وقت قبل أن ينتشر هذا الطراز بمأكولاتِهِ وجَوِّهِ وأراكيلِهِ انتشار النار في الهشيم. تجدر هنا الإشارة أنّ "العودة إلى دمشق" لم تقتصر على المطاعم، بل امتدّت أيضاً إلى النشاطات الثقافيّة المختلِفَة من التلڤزيون والمسلسلات والأفلام "الوثائقيّة"، إلى كتب نصر الدين البحرة وسهام ترجمان وناديا خوست وهلمّجرّا.

الكتاب من منشورات ٢٠٠٤ عن Indiana University Press، لأخصّائيّة العلوم الإنسانيّة Anthropology من جامعة Oxford، الدكتورة Christa Salamandra. أمضت المؤلِّفة بعد حصولها على إجازة في لغات وآداب الشرق الأدنى، سنةً في دمشق عام ١٩٨٧ لدراسة اللغة العربيّة. استندت معلومات الكتاب إلى دراسةٍ ميدانيّة أجرَتْها خلال إقامةٍ دامت سنتتين في العاصمة السوريّة من ١٩٩٢ إلى ١٩٩٤، قابلت فيها عدداً من وجوه المجتمع السوري، مثل صادق العظم ونجاة قصاب حسن؛ واستشهدت بآخرين: عفيف بهنسي ورنا قبّاني وخالد معاذ وغيرهم. توزّعت فصولُ الكتاب الخمسة على ٢٠٠ صفحة، تخلّلها عددُ لا بأسَ بِهِ من الصور بالأبيض والأسود.

من نافل القول أنّ ارتياد المطاعم والمقاهي لا يعني العودةَ فعلاً إلى دمشق القديمة، ولا يبدي حتّى أكثر محبّي المدينة التاريخيّة، الغيّورين على تراثها، أدنى رغبةٍ في السكن فيها. البيت العربي، بالنسبةِ لهم، لا يناسبُ الحياةَ الحديثة، وترميمه وصيانته عمليّةٌ مكلفةٌ للغاية. يترتّب على ذلك أنّ "العودة" إلى دمشق تقتصِرُ على "استهلاكٍ اصطفائي" لتقاليد وأجه ثقافيّة معينة في سبيل "تشكيل هويّة"، عن طريق الشراء والثياب والطعام ومراسم الخطبة والزواج وكيفيّة صرف أوقات الفراغ (صفحة ٢). حتّى جمعية "أصدقاء دمشق"، التي تأسّست عام ١٩٧٧، اضطرّت إلى إعارة الكثير من وقتِها واهتمامِها للمشاريع والأنشطة الثقافيّة والسياحيّة (صفحة ٨٠)، عوضاً عن التركيز على هدفها الأصلي، ألا وهو الحفاظ على المدينة. وجدت الجمعيّةُ الصراعَ مع سماسرة العقارات ومهندسي محافظة دمشق عمليّةً صعبةً ومضنية، وهناك من لجأ بكل بساطة إلى لوم حزب البعث وفي هذا الصدد (صفحة ٨٤) اتّهم أحد "الناشطين" - بعد أن أكّد بما لا يحتمل الشكّ أنه ليس طائفياً أبداً والعياذ بالله - المسؤولين بتدمير الأحياء المسلمة عن قصدٍ أو جهل، وتوفير الحيّ المسيحي وفقاً لمخطّط Écochard "المسيحي".

علّ أحد أسباب هذه الطريقة التجاريّة الاستهلاكيّة في العودة إلى القديم تغيّر نخبة elite السورييّن، أو على الأقل طبيعة هذه النخبة، في زمنٍ لم يعد التعليم فيه بالضرورة علامةً على مكانة المثقّف الاجتماعيّة، ولا وسيلةً مضمونةً لتحسين وَضْعِهِ social mobility. تحوّلت النخبة المتجدّدة إلى استعراضِ ثروتِها في الفنادق الفاخرة، والمطاعم، والأعراس، وثياب النساء، والمآتم، حتّى في شهر رمضان بإقامة مآدب الفطور وولائم السحور.

Saturday, June 3, 2017

الحفاظ على دمشق العتيقة



أجرت مؤلّفة الكتاب الدكتورة فائدة طوطح أربع زبارات إلى دمشق بين الأعوام ٢٠٠١ و ٢٠٠٨، أطولُها الأولى، عندما أقامت في شقّة في الشعلان (٢٠٠١ - ٢٠٠٢)، والثانية التي سكنت خلالها في حارة حنانيا في باب توما (تشرين أوّل ٢٠٠٣ إلى كانون أوّل ٢٠٠٤). أضافت الباحثة خلاصةَ النتائج التي حصلت عليها في دراساتِها الميدانيّة، إلى قرائاتِها وخبرتِها المهنيّة لتقّدّم لنا هذه الدراسة الممتعة الصادرة عن جامعة Syracuse عام ٢٠١٤ في حوالي ٣٠٠ صفحة تضمّنت ١٥ صورة بالأبيض والأسود.

شغلت طوطح (أعتقد أنّها فلسطينيّة الأصل) منصب أستاذ مساعد في العلوم السياسيّة في Virginia Commonwealth University. حاوَلَت المؤلِّفة في الدراسة قيد البحث، مستعينةً بطلاقَتِها بالعربيّة والإنجليزيّة، الإجابة على عدّةِ أسئلة، وخصوصاً:

أوّلاً: كيف ينظر الشوام والمقيمين في دمشق ومسؤولو الحكومة إلى الاستحالات الطارئة على المدينة؟
ثانياً: لماذا ترافقت عمليّة إعادة إحياء المدينة القديمة مع التركيز على هويّة شامية مثاليّة، علماً أن معظم الشوام هجروا هذه المدينة منذ عقود؟
ثالثاً: ما هو دور "غير الشوام" في الثقافة الشاميّة؟
رابعاً: ما هي دوافع رفض دور الثقافة الريفيّة في دمشق؟
خامساً: ما هو دور الازدواجيّة "ريف - مدينة" في التطوّرات التي شَهِدَتها دمشق؟

بدأت المؤلّفة بتعريف بعض المصطلحات التي لا غنى عنها لمن يريد استيعاب مطارحاتِها:

الشامي: هو من ينسب نفسه إلى دمشق القديمة حتى إن لم يعد يقطنها.
المقيم في دمشق: من سَكَنَ المدينة قبل بداية عمليّة الاستطباق gentrification، بغضّ النظر عن أصلِهِ. معظمُ هؤلاء من أصولٍ ريفية، وكثيرٌ من "الشوام" الذين لم يسكنوا المدينة القديمة في حياتهم يعتبرون هؤلاء وافدين مهما طالت إقامتهم ضمن السور.
عرّفت المؤلفة "الاستطباق"، بالكيفيّة التي تؤدّي فيها ظروفٌ اقتصاديّةٌ جديدة، إلى تجدّد المدن، من خلال إعادة تأهيل بيوتِها لتسخيرها لاستعمالاتٍ جديدة اجتماعيّة وثقافيّة.

يعلم المهتمون بدمشق أنّ الطبقة الموسرة والوسطى من أبنائِها هجرت بالتدريج المدينة القديمة إلى الضواحي الجديدة والشقق الحديثة اعتباراً من أواخر عهد الإنتداب الفرنسي ومنتصف القرن العشرين. ترافقت هذه الظاهرة مع وفودِ العديد من أبناء الأرياف ليشغلوا الفراغ الذي تركه الشوام ورائَهم، ويقطنوا البيوت العربيّة، ممّا أدّى إلى فقدان دمشق القديمة أهميّتَها السياسيّة والاجتماعيّة، وإن حافظت على مكانتِها الثقافيّة. ظلّ هذا الوضعُ سائداً حتّى مطلع التسعينات، عندما بدأت عملية "العودة" إلى البيوت الشاميّة عن طريق تحويلها إلى مطاعمٍ ومقاهٍ وفنادق بهدف جذب الشوام، وغير الشوام من الموسرين، مجدّداً إلى المدينة القديمة.

لا يعني هذا بالطبع غياب الأصوات التي ناشدت الجهات المعنيّة أن تفعل المزيد لإنقاذ النسيج العمراني للمدينة عبر السنوات. قامت الحكومة، على سبيل المثال، باستشارة المخطِّط الفرنسي Écochard (للمرّة الثانية) في الستّينات، وقدّم هذا الأخير عدداً من التوصيات، بيد أنّ اهتمامَهُ تركّز على إبراز المعالم الأثريّة وتسهيل المواصلات على حساب النسيج العمراني. مع ذلك لا يمكننا، حسب المؤلِّفة، أن ننفي أنّ اهتمام الفرنسييّن بدمشق ألهَمَ بعض السورييّن ومنهم خالد معاذ الذي بَذَلَ قصارى جَهْدِهِ في توثيقِ دمشق بالاشتراك مع المستشرق الفرنسي Sauvaget. هناك أيضاً تواصي عبد القادر الريحاوي في تحديث المدينة وتزويدها بالخدمات، دون المساس ببنيتِها التاريخيّة ونسيجها العمراني. يمكن إضافة أسماء وأصوات نصر الدين البحرة (دمشق الأسرار)، وناديا خوست (الهجرة من الجنّة)، والشاعر العظيم نزار قبّاني وغيرهم.

لا مناص لباحثةٍ سكنت لفترةٍ في شقّة، ثمّ في بيت عربي، من المقارنة بين الإثنين، وملاحظة تحدّيات الحياة في الدار الشاميّة التقليديّة: منها صعوبة التدفئة في الشتاء، والجهد والوقت الضروري للمحافظة على البيت نظيفاً، سواءً لدى هبوب الرياح الصيفية مع ما يرافقها من الغبار، أو في الشهور الممطرة وما يترتّب عليها من التخبّط في الوحل في الأزقّة الضيّقة التي يتعذّر دخول العربات الآليّة إليها أو يكاد. أضافت المؤلِّفة أنّ الكثيرين من سكّان البيوت القديمة يحلمون بالانتقال إلى شقّةٍ أكثر انسجاماً مع الحياة العصريّة.

ختمت طوطح دراسَتَها بالقول أنّ سبب ديمومة دمشق عبر آلافِ السنين يكمن في قدرتِِها على النموّ والتكيّف واجتذاب موجاتٍ جديدة من الناس، ولربّما أخطأ مَن اعتبرها ملكاً لمجموعةٍ أو فئةٍ معيّنة. من هذا المنطلق، هناك سلبيّات لقرار UNESCO عام ١٩٧٩ بإدراج دمشق كموقع تراث عالمي World Heritage Site بهدف حماية الأحياء الداخليّة، منها تجميد المدينة القديمة كما كانت في أربعينات القرن العشرين، عندما كان "الشوام" يقطنونها، ممّا قد يؤدّي إلى تهميش "المقيمين" فيها من سكّانِها الحالييّن.

حاشية:
تزامنت الحركة لحماية المدينة القديمة في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات مع الاضطرابات السياسيّة التي شَهِدَتْها سوريّا في تلك الفترة، وارتأى البعض أنّ أحد أهداف تحديث المدينة وشقّ شوارع عريضة، وكشف القلعة والأموي إلخ، كان محاولةَ الحكومة احتواء الإخوان المسلمين عن طريق تسهيل دخول عناصرها وآليّاتِها إلى معاقِلِهِم في الأحياء السكنيّة. اتّخذ الفرنسيّون تدابيراً مشابهةً بشكلٍ أو بآخر في عشرينات القرن الماضي، بغيةَ عزلِ دمشق عن ثوّار الغوطة.