لربما كان الراحل فيليب خوري حتي (1886-1978) أشهر مؤرخي القرن العشرين للشرق الأدنى و العرب عموماً و سوريا خصوصاً و لا تزال كتبه (تاريخ العرب 1937, تاريخ سوريا 1951, خمسة آلاف سنة من تاريخ الشرق الأدنى 1961, و غيرها) مراجع كلاسيكية للمختصين و الهواة حتى يومنا هذا. فيليب حتي ولد في جبل لبنان في آواخر العهد العثماني و درس (مثله في ذلك مثل أخيه يوسف صاحب قاموس حتي الطبي) في "الجامعة الأمريكية في بيروت" عندما كانت تدعى"الكلية السورية البروتستانتية" قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية و بالنتيجة يستقر فيها إعتباراً من عام 1926 ليكرس بقية حياته المهنية للتدريس و الأبحاث التاريخية المتعلقة بالشرق الأدنى و الإسلام و اللغات السامية.
صدرت الطبعة الأولى من كتاب "تاريخ سوريا بما فيها لبنان و فلسطين" عام 1951 و أعيد طبع الكتاب عدة مرات لاحقاً كما ترجم ترجمة أمينة إلى اللغة العربية و إن إفتقرت هذه الأخيرة مع الأسف إلى الصور و اللوحات العديدة و الجميلة التي زينت النص الأصلي باللغة الإنجليزية. يمكن إجمالاً تقسيم الكتاب إلى قسمين: الأول و هو الأكبر (أكثر قليلاً من 400 صفحة) يبدأ من العصر الحجري و ينتهي مع نهاية العصر البيزنطي و الثاني (300 صفحة) يغطي الفترة الواقعة بين الغزو العربي في القرن السابع الميلادي إلى منتصف القرن العشرين و في إعتقادي أن هذا التوزيع أكثر من منصف لبلاد يبلغ عمر الحضارة فيها آلاف السنين معظمها قبل الإسلام و العروبة مع الإحترام لآراء العروبيين و الإسلاميين و ما يدرس في سوريا تحت باب العلوم الإجتماعية.
الكتاب شيق و ممتع و علاوة على سرده للحوادث التاريخية و العلاقات السياسية فهو يغطي بشكل واف الحياة الفكرية و الثقافية و القانونية و الإدارية و الدينية و المعمارية و الفنية ليس فقط في العهود السامية القديمة و إنما أيضاً الفارسية و اليونانية و الرومانية و البيزنطية و التي تهملها أكثر المراجع العروبية كعهود "إستعمارية" ممجوجة و يرتكز منهجياً على النصوص المتوافرة إضافة إلى الآثار الملموسة من الأطلال و الأدوات و الخزف و العملة في سوريا و البلاد المجاورة. فيما يتعلق بتاريخ سوريا في العهد الإسلامي يركز حتي و بحق على الحقبة الأموية و التي يعتبرها عهداً ذهبياً في تاريخ سوريا رغم الإضطرابات السياسية و الحروب الأهلية بينما كانت القرون العباسية إلى العهد الأتابكي قاسية على دمشق التي فقدت أولويتها مع إنتقال مركز الإمبراطورية إلى الشرق و من ثم مع تفتت هذه الإمبراطورية إلى دويلات متنافسة و متناحرة.
على عكس الأب هنري لامان لا يمكن إتهام حتي بأي إنحياز ضد الإسلام و العرب و بنفس الوقت فقد إلتزم بشكل مهني و إعتماداً على المصادر الأصلية عربية كانت أم غير عربية برواية يمكن الإعتماد عليها كتاريخ موضوعي و ليس أساطير تمليها العواطف التي تتبنى ما يعجبها و تنكر أو تتجاهل السلبيات على حساب الحقيقة و عل الفصول التي تعالج فترة الحملات الصليبية و من عاصرها بداية من عماد الدين زنكي و نهاية بإنسحاب الإفرنج من جزيرة إرواد بشاهد على ما أقول. ينتهي الكتاب مع سقوط الإمبراطورية العثمانية و لا يتطرق إلى الفترة التي سبقت الإستقلال إلا ضمن أضيق الحدود كموضوع لم تكتب قصته حتى هذا الحين.
لجميع الذين يحبون سوريا و يهتمون بتاريخها و بنفس لا يملكون من الوقت ما يسمح بقراءة أكثر من كتاب عنها و لا التأهيل الأكاديمي للتمييز بين الحقيقة و الدعاية يبقى كتاب حتي بعد 65 من نشره أجمل و أكمل ما كتب عنها بلا منازع.
No comments:
Post a Comment