Tuesday, March 1, 2016

تقديم لكتاب "تاريخ سوريا" لهنري لامنس


كان الأب Henri Lammens 1862-1937 علماً من أعلام المستشرقين الأوروبيين و لربما فاقت معرفته بالنصوص العربية و الإسلامية القديمة (إضافة إلى ما يتعلق بها من النصوص اليونانية و اللاتينية) معظم علماء العرب و المسلمين. ولد لامان في بلجيكا و إلتحق بالكلية اليسوعية في بيروت عندما بلغ من العمر 15 سنة و مات و دفن في المدينة التي أصبحت لاحقاً عاصمة للبنان. ألف الكثير عن الكتب عن محمد و الإسلام و التي كانت نظرته إليهما سلبية في معظمها و إن كانت مستمدة إلى حد كبير من إستقراء عميق و إن كان منحازاً للنصوص الإسلامية الأصلية.

أستعرض في هذه السطور كتابه عن سوريا La Syrie : précis historiqueو الذي نشر عام 1921 و صدر عن المطبعة الكاثوليكية في بيروت. الكتاب موزع في  جزئين و تعداد صفحاته حوالي 550 صفحة. لغة المؤلف بفتح اللام فرنسية و هو موجود بالمجان على الإنترنت و على علمي لم يترجم. لهذا الكتاب أهمية خاصة و لربما كان أول ما صدر عن تاريخ سوريا و السبب بسيط: سوريا ككيان جغرافي سياسي ولدت مع إنتداب فرنسا بينما سوريا الجغرافية مفهوم قديم يتجاوز عمره ألفي سنة. يجدر التنويه أن لامان قام بتأليف الكتاب بناء على طلب الجنرال هنري غورو. 

يتعرض الكتاب لتاريخ سوريا بمنظور عكسي لمعظم ما يدرس في المناهج الحكومية في سوريا. للتوضيح فإن هذه المناهج تعتبر أن سوريا "قطر" في وطن عربي مزعوم و أن تاريخها رسمه في البداية "العرب الساميين" و الذين يشملون بقدرة قادر "العرب الفراعنة" و يستثنى منهم اليهود (رغم أنه لا يمكن إنكار أن اللغة العبرية سامية) . الفرس و اليونان و الرومان و البيزنطيين "غزاة" بينما غزو العرب في القرن السابع الميلادي "فتح" يعود بعده المستعمرون المماليك و العثمانيين و هلم جرا إلى جلاء الفرنسين عام 1946. المنظور الإسلامي عن تاريخ العرب و سوريا أكثر طرافة فهو يعتبر كل ما قبل الإسلام عهود جاهلية لا داعي لإضاعة الوقت بدراستها و لا حتى حماية آثارها (على الأقل فيما يتعلق بالوهابيين المتشددين كداعش). بالنسبة للامان العكس هو الصحيح: تاريخ سوريا الإسلامي برمته إنحطاط من الأمويين إلى العثمانيين دون إستثناء و التدخل الأوروبي بما فيه الصليبي أنعش هذا البلد الرازح تحت النير الإسلامي.

يستهل الكاتب سرده بفصل تمهيدي لا يتجاوز 29 صفحة لخص فيه تاريخ سوريا حتى الغزو العربي بعنوان "القومية السورية" تحدث فيه عن وحدة سوريا الجغرافية و العرقية و حيوية السوريين و كيف إستطاعت سوريا هضم العديد من الغزاة نهاية بالعهد البيزنطي الذي مزقته الخلافات الدينية حول الثالوث و طبيعة المسيح علاوة على الحروب مع الفرس و يختمه بظهور ما أسماه بالخطر العربي في القرن السابع للميلاد. يسلم لامان أن تلخيص آلاف من السنين ببضعة صفحات مبتسر أكثر مما ينبغي و لكنه يتذرع بضيق الوقت الذي منحه إياه الجنرال غورو لإتمام الكتاب.

الفصلان الثاني و الثالث تعريف بالجزيرة العربية و كيف كانت بدايات الإسلام فيها بقيادة محمد. الفصل الرابع يسرد قصة الغزو العربي لسوريا نهاية بتولي مروان إبن الحكم كرسي الخلافة و يتحدث عن إستغلال الفاتحين لسكان سوريا من أهل الذمة الذين أثقلوهم بالضرائب رغم إعتمادهم الشبه كامل عليهم في الإدارة حيث إقتصرت حكومة العرب على الشؤؤن المالية و العسكرية. لا داعي للوقوف على تفاصيل الحروب الخارجية و الأهلية فهي غنية عن التعريف. الفصل الخامس عن سوريا تحت حكم المروانيين و كيف جرى تعريب الإدارة كما يتعرض إلى الإنجازات الفنية و المعمارية كالجامع الأموي و قبة الصخرة و ينتهي بحمام الدم العباسي عام 750 للميلاد. الفصل السادس يفصل الحياة الثقافية تحت الأمويين و إنتشار الإسلام في سوريا ووضع "الأقليات" الدينية و الموالي والعبيد كما يتطرق لزيادة عدد العرب و الترف الذي تنعموا فيه على حساب بقية السوريين. الفصل السابع يروي إذلال سوريا تحت العباسيين ثم تفكك الدولة العباسية و صعود الفاطميين (و هم طبعاً إسماعيليون) و الدروز وصولاً إلى العهد السلجوقي كما يتعرض للصوفية.

يفتتح الكاتب الفصل الثامن و دون مقدمات بالجزم أن مؤلف القرآن هو محمد و يتابع سرده بتفصيل مصادر التشريع الإسلامي و المدارس الفقهية الأربعة ثم يسهب في تعريف الصوفية و منها إلى تقديم نبذات عن مختلف الطوائف الإسلامية الشيعية من إثني عشرية و زيديين و إسماعيليين و دروز و نصيريين نهاية بالوهابيين و البابيين و أتباع البهاء.

الفصل التاسع يتحدث عن توسع النفوذ الفرنسي و علاقات الإفرنج مع المشرق مروراً بشرلمان. الفصل العاشر مخصص للحملات الصليبية و الحادي عشر عن تنظيم الدويلات الصليبية و يسلم الكاتب أن الإفرنج إرتكبوا بعض المجازر و لكنه يستطرد فيقول أن الروايات عنها مبالغ فيها للغاية  أنهم -أي الصليبين- لم يكونوا أكثر دموية من غيرهم و أن الحروب لم تقطع الروابط التجارية بين الغرب و الشرق و لا بين المسيحيين و المسلمين و يشيد بالإزدهار العمراني لسوريا في هذا العهد و الذي لم تعرفه البلاد منذ العهد الروماني و بعدالة الصليبيين مع المسلمين و المسيحيين مستشهداً بذلك بالرحالة الأندلسي المسلم إبن جبير الذي زار سوريا في أواخر القرن الثاني عشر. 

الفصل 12 يتحدث عن الفوضى تحت حكم المماليك و إستباحة دمشق على يد تيمورلنك كما يستعرض بدايات تشكل هوية لبنانية. فصل 13 عن الغزو العثماني و ظهور المعنيين في لبنان. فصل 14 بدايات الشهابيين. رقم 15 مآثر ضاهر العمر و أحمد باشا الجزار و بونابارت. 16 يتعرض لصعود الوهابيين و محمد علي و إحتلال ابراهيم باشا لسوريا إلى مجزرة 1860 التي يطلق عليها البعض إسم "طوشة النصارى" و خلق متصرفية جبل لبنان. 

فصل 17 عهد السلطان عبد الحميد الثاني و بدايات الحركة الصهيونية و التغلغل الثقافي الفرنسي في سوريا. فصل 18 ظهور جمعية الإتحاد و الترقي أو تركيا الفتاة. بداية ظهور الهوية السورية و المطالبة باللامركزية. مذابح الأرمن. الفصول 19 و 20 مخصصة للحرب العالمية الأولى أو ما عرف وقتها بالحرب العظمى و يسخر الكاتب فيهما من تفاهة إسهام "الثورة العربية الكبرى" في المجهود الحربي. 

فصل 21 و هو الأخير يطنب في حب السوريين لفرنسا و عرفانهم لجميلها في تحريرهم من نير الأتراك و يشير أنه في جميع المناطق التي إستطاع سكانها التعبير بحرية أكدت الإستطلاعات تفضيلهم إنتداب فرنسا على حكم الحجازيين. بالنسبة لفيصل فقد كان ألعوبة في يد بريطانيا ووافق على مخططاتها في فلسطين بينما لم يتعاون مع الجنرال غورو النبيل و قام بإستفزاز الفرنسيين بينما أعمل أنصاره المذابح في رقاب المدنيين المسالمين تحت حماية فرنسا و نجم عن هذا إنذار غورو الشهير و معركة ميسلون ثم "إستقلال سوريا" تحت وصاية فرنسا. يبرر الكاتب تقسيم سوريا و خاصة فصل "لبنان الكبير" عنها بضرورة لا مندوحة عنها كون لبنان "عقل سوريا" أكثر تطوراً من بقية الشرق الأدنى إقتصادياً و فكرياً و بالتالي كان لا بد من مراعاة وضع خاص له و أن هذا لا يمنع قيام نوع من التشارك الفيدرالي بين الدويلات السورية على المدى البعيد. 

بغض النظر عن إعتبارات الموضوعية و عن التعرض لتاريخ سوريا قبل الإسلام بجرة قلم فالكتاب سلس القراءة و غني بالمعلومات رغم إفتقاره إلى الصور بل و أزيد فأقول أن إنحيازه يجعله أكثر جدارة بالقراءة بهدف الإطلاع على وجهة نظر مغايرة للكليشيهات التي يدرسها العرب عموماً و السوريين خصوصاً. وجب إنتظار 30 سنة قبل ظهور الكتاب الثاني عن تاريخ سوريا للأستاذ فيليب خوري حتي ولكن لهذا حديث آخر.


No comments:

Post a Comment