Tuesday, February 9, 2016

الليدي إيزابيل برتون في دمشق


إيزابيل برتون (١٨٣١-١٨٩٦) هي قرينة الكاپتن ريتشارد برتون قنصل بريطانيا العظمى في دمشق ١٨٦٩-١٨٧١ وأقامت معه في مدينتنا لفترة تقلّ عن العامين، كان أحد ولربما أهم نتائجها كتابها الشهير "الحياة الداخليّة في سوريّا وفلسطين والديار المقدّسة" الذي نُشِر عام ١٨٧٥. الكتاب موزّع في مجلّدين يبلغ عدد صفحاته الإجمالي حوالي ٧٠٠ وهو موجود بالمجّان على الإنترنت. لهذا المؤلَّف في نظري أهميّة خاصّة نظراً لبحثه في بعض المواضيع التي  لا يتطرّق إليها المستشرقون ولا الكتّاب المحليّون عموماً إلا فيما ندر وبشكل مبتسر نظراً للفصل بين الجنسين في الشرق الأدنى . قامت السيّدة برتون برسم لوحة لدمشق ومحيطها من وجهة نظر نسائيّة في وقت لم تمتلك سوريّا فيه لا كولّيت خوري ولا غادة السمّان وكانت سيّدات سوريّا في غالبيتهنّ العظمى أميّات.

لن أحاول تلخيص الكتاب وعلّ أفضل ما أستطيعه تسليط الأضواء على نقاطٍ معينة قلّما تناولها الآخرون. لن أقوم بتلطيف أو تجميل ما كتبته الليدي برتون ولربّما كان خيراً وأبقى أن أقدّم لمحةً سريعة عن خلفيّتها كي يستطيع القرّاء أن يستخلصوا نتائجهم كلٌّ لنفسِهِ. الليدي برتون كاثوليكيّة شديدة التقى والورع. أحبّت واحترمت زوجها إلى أقصى الحدود. برتون إنجليزيّة فخورة تجلّ الملكة ڤيكتوريا وتؤمن إيماناً مطلقاً بأفضلية البريطانييّن وتفوّقهم على كافّة أمم الأرض وإن أعطت -كرماً منها- الميداليّة الفضيّة للفرنسييّن. لم يمنعها هذا من حبّ دمشق على علّاتها وعلّ هذا مرتبط إلى حد ما بما تعنيه المدينة لمسيحي ملتزم. كان حزنُها بالغاً عندما خسر زوجُها منصبَه القنصلي وتعيّن عليها أن تلحقه إلى إنجلترا. ظلّ أمل العودة إلى دمشق يداعب خيالها لعدّة سنوات بعدها.  

لم يكن الإنطباع الأول للسيّدة برتون عن دمشق يتناسب مع فكرتها المسبقة عن المدينة كجنّة الله على الأرض وككثير من الرحالة الأوروبين خاب أملها وليس هذا بالمستغرب ممّن عاش حياته في شمال وغرب أوروپا بين مياه لا تنضب وأشجار دائمة الخضار وتربة شديدة الخصوبة. ما يعطي دمشق سمعتها الأسطورية هو النقلة الفجائية من صحراءٍ قاحلة إلى واحة غناء وهذا ما أدركته الليدي برتون لاحقاً وفي هذا الصدد تعرّضَت لرواية محمّد عندما توقّف في المنطقة المعروفة بالقدم (نسبة إلى قدم النبي) حتى لا يدخل الجنّة الأرضيّة كون مطمعه جنة السموات. كان تعليقها على هذه الرواية أنّ جنّة دمشق تتجلّى بكامل حسنها من مرتفعات قاسيون وليس من منطقة القدم وهذا بدهي لكل دمشقي قبل وبعد دلال الشمالي. بناءً عليه أقامت مسز برتون في الصالحيّة في الأشهر الباردة (كانت الصالحيّة تكشف دمشق نظراً لغياب الأبنية العالية في ذلك الزمان) وكانت مع زوجها يقصدان دمشق على ظهور الدواب للذهاب إلى القنصليّة البريطانيّة أو زيارة الأصدقاء إلى آخره... أمّا فصل الصيف فكانت تقضيه في بلودان. علاوة على ذلك قامت بزيارة عدّة مناطق في سوريا أهّمها تدمر كما قامت برحلات إلى لبنان وفلسطين معظم الوقت على ظهور الدواب في زمن لم تعرف سوريّا فيه لا السيّارات ولا القطارات ومعظم الطرق لم تسمح حتّى بعبور العربات التي تجرّها الخيول. 

وصلت الليدي برتون إلى دمشق للمرة الأولى في ٣١ كانون أول ١٨٦٩ ونزلت في فندق دميتري "الوحيد" في دمشق ومن وصفه يتبيّن أنّه بيت شامي تقليدي تمّ تحويله إلى نزل لزوار المدينة الأجانب. لم تستسغ الزائرة طعامَه ولا خمرَه ناهيك عن شكواها من الشوارع المحفورة القذرة. في كل الأحوال لم تطل إقامتها فيه إذ أتى زوجُها ليصطحبها معه بعد وصولها بقليل.

في الصفحات التالية تنتقل السيّدة إلى وصف معالم المدينة وتدّعي أنّ المباني الكبيرة الوحيدة فيها ثلاث: الجامع الأموي والقلعة والسرايا ثم تعرّج على أهمّ شخصيّات المدينة: الوالي والمشير وأمير الحجّ وقائد الباشي بوزوق والأمير عبد القادر الجزائري؛ لتقوم بعد ذلك بوصف محمل وقافلة الحجّ بالتفصيل. يلي ذلك جولة في أسواق دمشق من سوق الأروام أو اليونان (لاحقاً غرب سوق الحميديّة) إلى سوق الكتب في المسكيّة.  

تعليق السيدة برتون على عادة تدخين الأرجيلة مثير للإهتمام فهي تنصح دون تحفّظ كل من أراد معاشرة النساء في دمشق أن يتعلّم التدخين وأن يقدّم التبغ لضيوفه ويتناوله كضيفٍ زائر. وتضيف إلى وصفها الدقيق للأرجيلة نصيحة ثمينة لبناتِ جنسها وهي أن يوفّرن التبغ لبعولتهنّ في البيت إذا كنّ لا يردن لهم أن "يصيعوا" ويبحثوا عنه في أماكن قد تكون مشبوهة السمعة. 

قدّرت الليدي برتون عدد سكان دمشق بحوالي ١٢٠٠٠٠ إلى ١٥٠٠٠٠ نسمة بجميع طوائفهم أما عن العلاقة بين هذه الطوائف فيحسن أن أترجم ما قالته حرفياً و لكن يجب الأخذ بعين إعتبار أن مجزرة ١٨٦٠ كانت حديثة العهد وقتها:

"السنّة يكفّرون الشيعة وكلاهما يكرهون الدروز. الكلّ يمقت النصيرّية. الموارنة يحبّون أنفسهم فقط والجميع يبغضونهم. الروم الأورثودكس يستقبحون الروم الكاثوليك واللاتين. الجميع يزدرون اليهود". 

وصفت الليدي برتون سوريّا  كمكان تفشّت فيه الأمراض كالزحار والرمد و"الحمّى السورية" التي قصدت فيها على الأغلب الملاريا (البرداء). العناية الطبّية الجدّية شبه معدومة بإستثناء حفنة من الأطبّاء الأجانب والبعثات التبشيريّة. طبيب دمشق الوحيد وقتها فرنسي إسمه نيكورا مات عام ١٨٧٤. السيدة برتون تفهم في الطبّ أكثر من نطاسييّ سوريّا. شوارع دمشق ترتع فيها الكلاب الشاردة التي تتغذّى على الجيف. 

بالنسبة لنساء دمشق تدّعي الليدي برتون أنّهنّ لسن جميلات وأنّها لم تجد في كلّ البيوت التي زارتها في سوريّا أكثر من ثلاث أو أربع نساء يتمتّعن بالجمال وفقاً لمعايير أوروپا وتضيف أنّ الجمال السوري ليس فقط نادراً و لكنّه أيضاً سريع الزوال. تعدّد الزوجات هو القاعدة في سوريّا (كلام فارغ بالطبع إلّا في حالة الأغنياء) ثم تقوم مسز برتون بإلقاء محاضرة طويلة على السوريّات ترسم فيها صورةً مثالية للزواج في الغرب بينما تستمع الدمشقيّات المسكينات في انبهار من حكمة الزائرة المقطّرة. 

تثير الليدي برتون موضوع بعث المسيحية في دمشق فتقدّر نقلاً عن مصادر اعتبرتها موثوقة عدد المسلمين الذين إعتنقوا المسيحيّة في دمشق بحوالي ٢٥٠٠٠ وإن لم يزيد عدد الذين جاهروا بإرتدادهم عن ٤٠٠

السوريّون ساديّون يعذّبون الحيوانات بسبب ودون سبب سواءً كانت شاردة كالكلاب (مقولة تناقضها بعض المصادر الغربيّة على الأقلّ) أو مروّضة ومدجّنة كالخيول. 

هناك فرق كبير بين دماغ السوري و دماغ الإنجليزي. السوريّون يتعلمون بسرعة هائلة و هم ذوي ذكاء متوقّد ويستطيعون بغريزتهم أن يكتسبوا ما يلزم للإنجليزي عام كامل لإستيعابه ولكن ليس لديهم جَلَد أو مثابرة وينفجر دماغهم إذا حمّلته أكثر مما يحتمل بينما لا حدود لما يمكن أن يتعلّمه البريطاني.

يتعين على المسيحييّن المتمدّنين في الغرب أن يكونوا قدوة للمسيحييّن الغير متمدّنين في الشرق. كثير من الكنائس السوريّة في حالةٍ بائسة وتحتاج إلى الدعم. بلودان المسيحيّة لم تكن تملك كنيسة وبالتالي تعين على الليدي برتون أن تذهب إلى كنيسة الزبداني يوم الأحد. 

الكتاب طويل ولكّنه سلس وممتع خصوصاً الجزء الأول ويبقى شاهد عيان على دمشق وسوريّا في أواخر العهد العثماني وإن لم يكن شاهداً  "من أهله". قد يعترض البعض وبحقّ أن رؤية الكاتبة منحازة وحتّى عنصريّة ولكن قلّ من كانت رؤيتهم حياديّة بالكامل ومنزّهة. 


بيت الليدي إيزابيل برتون في الصالحيّة



No comments:

Post a Comment