تراجعت أهميّةُ القلعةِ العسكريّة مع تطوّر وسائل التدمير، أو ما يسمّى مع شديد الأسف "فنون الحرب" في العصور الحديثة، وأدّى هذا بالنتيجة إلى إهمالِ أحد أهمّ أوابد دمشق، ورَدْمِ خندقِها، وبناءِ سوق الحميديّة بحذاءِ سورِها الجنوبي وسوق الخجا أمامَ سورِها الغربي. استُعْمِلَت حجارةُ القلعةِ في بناءِ عددٍ من المنشئات، وأُضيفَت ضِمْنَ نطاقِها أبنيةٌ بيتونيّةٌ شوَّهَت وغَطَّت معالِمَها. أضِف إلى ذلك تحويلَها إلى سجنٍ لفترةٍ طويلةٍ ممّا جعل دِراستَها صعبةً إن لم تكن متعذّرة إلى أمدٍ قريب.
لم تمنع هذه العقبات الكأداء عدداً من الباحثين من فَحْصِ البناء، ويمكن اعتبار عمل الألمانييّن Watzinger و Wulzinger الذي نُشِرَ عام ١٩٢٤ المحاولةَ الجديّةَ الأولى لاستقراءِ الحصن بطريقةٍ علميّةٍ منهجيّة. أتت دراسةُ Jean Sauvaget (هنا و هنا) عام ١٩٣٠ خطوةً هامّةً على الطريق الذي شَقَّهُ الألمانيّان، ومن بعدِها دراسةُ King عام ١٩٥١، وأخيراً كتاب عبد القادر الريحاوي عام ١٩٧٩.
انتقل الإشرافُ على القلعةِ إلى المديريّة العامّة للآثار والمتاحف في ثمانينات القرن العشرين، وعنى ذلك الشروع بأعمال التنقيب على نطاقٍ أوسع وأشمل بتعاون سوري - فرنسي مع إسهام مصري. لا تقتصرُ أهميّةُ هذهِ الأعمال على القلعةِ على ضخامَتِها، وأنّما تمتدّ إلى دمشق ككلّ، في محاولةٍ لإسقاطِ معطيات الاكتشافات ضمن القلعة على بقيّةِ المدينة ضمنَ حدود الإمكان. يعودُ السببُ إلى استحالةِ التنقيب في المدينة بشكلٍ عامّ دون تدمير الكثير من المباني العريقة مع النسيج العمراني الذي يحتَضِنْها.
خصّصت مجلّة الدراسات الشرقيّة في عددِها المزدوج (٥٣ - ٥٤) الصادر عام ٢٠٠٠ - ٢٠٠١ ملحقاً بطولِ ١٧٠ صفحة لخَّصَ بعضَ المكتشفات، مع تعريفٍ بأسلوبِ البحث وغاياتِهِ. المقالاتُ موجَّهَةٌ بالدرجةِ الأولى إلى الأخصّائييّن، وجميعها بالفرنسيّة باستثناء واحد بالعربيّة وآخر بالإنجليزيّة. توزّعت إدارةُ العمل بين فريقٍ فرنسي ترأّسَتْهُ Sophie Berthier، وفريقٍ سوري برئاسة مدير القلعة إدمون العجي.
لا تكفي هذه المقالات لتغطية القلعة ولا تهدف لذلك أصلاً، بل تفترض أنّ القرّاءَ ملمّون بالموضوع ومطّلعون على الأعمالِ السابقة. رَكَّزَ الكتّابُ جهودَهُم على بعضِ المواقع: الأبنية الجنوبيّة الغربيّة التي اعتقد Sauvaget أنّها تمثّل قصراً أيّوبياً، المدخل الشمالي (باب الحديد وملحقاتِهِ)، صالة الأعمدة في الشرق، والمعطيات الخزفيّة والفخّاريّة.
ليس بإمكانِنا، استناداً على المعطيات المتوافرة، توكيد أو نفي وجود القلعة بشكلٍ أو بآخر قبل العصر السلجوقي، ناهيك عن الحصن الروماني castrum المزعوم؛ هناك مع ذلك أدلّةٌ نصيّة وعينيّة لا يرقى إليها الشكّ على وجودِ قلعةٍ سلجوقيّة بأبعاد ١٣٠ x ٢١٠ متر (١). من المثير للاهتمام وجود قرائن مفادُها أنّ البابَ الشمالي (٢) سابقٌ للقلعة، يعودُ إلى نهايةِ القرن العاشر الميلادي. من المُحْتَمَل أنّه شكَّلَ في حينِهِ جزءًا من تحصينات سور المدينة. "قصر" Sauvaget الأيّوبي المذكور أعلاه شكَّلَ بالأحرى الزاويةَ الجنوبيّةَ الغربيّةَ من السور الأصلي السلجوقي حسب Jean-Blaise Gardiol؛ يترتّبُ على ذلك أنّ وظيفَتَهُ كانت دفاعيّةً بالدرجةِ الأولى.
الجامعُ الأموي أهمُّ معالمِ دمشق على الإطلاق وبإجماع الخبراء، ويمكن القول أنّ القلعةَ منافسٌ جدّي على الميداليّة الفضيّة. نأملُ أن تسلِّطَ الأبحاثُ المستقبليّةُ المزيدَ من الأضواءِ على هذا الصرح العريق.
____________
١. أبعادُ القلعة الحاليّة ١٥٠ x ٢٣٠ متر وهي أيّوبيّة تعود إلى مطلع القرن الثالث عشر وعهد الملك العادل مع ترميماتٍ لاحقة في العهد المملوكي.
٢. باب الحديد.

No comments:
Post a Comment