فلنبدأ المشوار قبل ثلاثين عاماً -أي في ستّينات القرن التاسع عشر- عندما دعي المؤلّف شارل لالمان إلى حضور حفل زفاف باذخ في الحيّ اليهودي في دمشق وتحديداً بيت لزبونة. شهد هذا اليوم الميمون عقد قران شابّ يبلغ عمره سبعة عشر ربيعاً من صبيّة تصغره بأربع سنوات وبارك الجلسة ثمانية أو عشرة حاخامات ذوي هيئة رسميّة ومهيبة. قدّر للكاتب أن يزور دمشق من جديد في صيف ١٨٩٣ وبالجملة نفس البيت الفخم الذي لم يتغيّر وإن كان العريس أصبح كهلاً شابت ذوائبه. كانت فرحة السيّد لزبونة كبيرة عندما ذكّره ضيفه الفرنسي بأيّام الشباب.
لم أستطع الحصول على معلومات تستحقّ الذكر عن السيّد Lallemand وأمّا عن متى صدر الكتاب فيمكن الاستدلال عليه بشكل غير مباشر من ذكر له في مجلّة لهواة الفنّ من منتصف تسعينات القرن التاسع عشر The Art Collector: Volumes 5-6, 1893-1894 & 1894-1895 والأهمّ من ذلك قراءة الكتاب (بالفرنسيّة) إذ يقول المؤلّف أنّه زار دمشق للمرّة الثانية في تمّوز ١٨٩٣ قبل حريق الأموي (تشرين أوّل نفس العام) الذي ذكره وإن لم يشهده. إذاً التاريخ ليس قبل ١٨٩٣. يذكر الكاتب أيضاً العمل الجاري على خطّ حديد دمشق بيروت الذي لم ينجز بعد. على اعتبار أنّ هذا الخطّ دشّن عام ١٨٩٥ فالكتاب إذاً ليس أحدث من هذا التاريخ.
الكتاب ١٣٠ صفحة من القطع الكبير التي تتخلّلها العديد من الصور التاريخيّة ويضاف إليها لوحات فوتوغرافيّة خارج النصّ. من الواضح أنّه لم يكن موجّهاً لذوي الدخل المحدود ومن حسن الحظّ أنّ الجمل بما حمل متوافر بالمجّان على هذا الرابط.
تجدر الإشارة هنا إلى انفتاح الإمبراطوريّة العثمانيّة على أوروبا في أعقاب حرب القرم وتحسّن وضع الأقليّات عموماً. أصبح من الممكن لغير المسلمين زيارة الجوامع والمعالم الإسلاميّة.
لا يقتصر وصف الديار المقدّسة على القدس وإن نالت حصّة الأسد. خصّص الكاتب حيّزاً لا بأس به لبيت لحم ويافا ولكن لنتعرّض بسرعة لزهرة المدائن من وجهة نظر أديب ورحّالة أوروبي قد لا تخلوا من العنصريّة كما هو الحال في معظم أدبيّات ذلك الزمن. مدينة القدس بائسة ومظلمة وهناك تناقض كبير بين بهاء الحرم الشريف بما فيه قبّة الصخرة وبقيّة المدينة. ينظر السيّد Lallemand لمسيحيّي فلسطين بازدراء ويدين تناحر طوائفهم بعضها مع البعض الآخر بينما يمدح الجنود الأتراك ذوي الثياب الرثّة الذين يحافظون على الأمن خاصّة في المناسبات الدينيّة (حول كنيسة القيامة). عدد سكّان القدس في زعمه "على الأقلّ" ٥٠٠٠٠ منهم ٣٥٠٠٠ إلى ٤٠٠٠٠ يهودي. للتحقّق من هذا الرقم قمت بالمقارنة مع طبعة عام ١٨٩٤ من دليل Baedeker الذي نقل عن مصدر من عام ١٨٨٧ إجمالي عدد سكّان القدس بحوالي ٤٠٠٠٠ منهم ٢٨٠٠٠ يهودي ولكنّه أضاف أنّ الهجرة اليهوديّة كانت تتسارع بسبب الاضطهاد في روسيا ورومانيا (طبعة Baedeker الأولى عام ١٨٧٦تقدّر عدد يهود القدس بين ٤٠٠٠ إلى ٨٠٠٠). في كلّ الأحوال يعطف المؤلّف على وضع اليهود ويحبّذ أن تصبح القدس عاصمتهم شريطة أن يتركوا للمسيحييّن والمسلمين أماكنهم المقدّسة (يحضرني هنا تصريح بلفور) ويضيف أنّ اليهود -المكابييّن خصوصاً- علّموا العالم الوطنيّة وأنّ هذا العالم مدين لهم.
أخذت بيروت حصّة صغيرة من اهتمام الكاتب كمدينة ساحليّة توسّعت كثيراً في النصف الثاني للقرن التاسع عشر وتضاعف عدد سكّانها ليصبح ١١٥٠٠٠ نسمة منهم ٣٣٠٠٠ مسلم. يضيف فيقول أنّ دماء المسيحييّن -في لبنان- "فينيقيّة" وأنّ جميعهم عمليّاً يتكلّمون اللغة الفرنسيّة.
فتنت دمشق الزائر الأوروبّي كما لم تفعل القدس ولا غير القدس في الشرق الأدنى ولم يكن بالطبع الوحيد في هذا المضمار. يكمن سحر العاصمة السوريّة في التفاوت الفجائي والصارخ بين الجبال والسهوب الجرداء المحيطة بها من جهة وبين واحتها الغنّاء من جهة ثانية والتي لا يمكن تمييز المدينة بين أشجارها اللهمّ إلّا من قاسيون أو شرفات المآذن. عدد سكّان دمشق ١٢٥٠٠٠ إلى ١٣٠٠٠٠ منهم ١٠٠٠٠ مسيحي و ٧٠٠٠ يهودي. أسواق دمشق شديدة الازدحام بالبشر والدوابّ (الحمير والبغال والخيول والجمال) ودخول العربات إليها أمر عسير (الكلام طبعاً عن العربات التي تجرّها الخيول). الكلاب في كل مكان وتتعاون مع الطيور الجارحة في تنظيف فضلات المدينة في غياب خدمات بلديّة فعّالة. واضح أنّ الكاتب "يحبّ بطنه" من الأسطر العديدة التي تغنّى فيها بمأكولات دمشق من الشاورما إلى قمر الدين والكنافة ومشروباتها المبرّدة من الليموناضة إلى العرقسوس... الضيافة في دمشق تعطي مكان الصدارة للتبغ والقهوة والمضيف الذي لا يقدّمهما للزوّار يخالف العرف الاجتماعي وفي ذلك إهانة للضيوف لا تغتفر. أقام السيّد Lallemand في فندق دميتري الذي زار منه أسواق المدينة ووصف حرف النسيج والنحاس والفسيفساء الخشبيّة وادّعى أنّ معظم الحرفييّن المهرة مسيحيّون أو يهود مضيفاً أنّ المسلمين يزدرون الأعمال اليدويّة ويفضّلون التجارة.
ختم المؤلّف بالتحذير من مخاطر انفتاح دمشق على التقنيّة الغربيّة والعالم الخارجي وفيما قاله مخاطباً المدينة الخالدة:
"دافعي عمّا تبقّى من ثرواتك ولا تستبدلي كنوزك ببضائع الغرب الرخيصة....حافظي على كمال ضواحيك وعلى زينة جوامعك المقدّسة...سيضيف الخطّ الحديدي بالتأكيد ضربة جديدة لأصالتك...يسعدني أن أحتفظ عنك بصورتك في أيّام مجدك وأنّني حاولت جهدي أن أخلّدها في صفحات هذا الكتاب".
أخيراً يقول: ":يتلاشى الشرق في الماضي كحلم جميل يلوذ بالفرار".
Bendjebbour Mohamed: Charles Martin Jacques Lallemand
ReplyDeleteécrivain, peintre dessinateur et illustrateur. Français né en 1826 à Strasbourg décédé en 1904.
Grand merci!
Delete