Saturday, March 3, 2018

القدس، دمشق، وشارل لالّمان



بدأ المشوار عام ١٨٦٥ عندما دُعِيَ المؤلّف Charles Lallemand إلى حضورِ حفلِ زفافٍ باذخٍ في بيت لزبونة في الحيّ اليهودي في دمشق. شَهِدَ هذا اليوم الميمون عَقْدَ قرانِ شابٍّ بَلَغَ عمرُهُ سبعة عشر ربيعاً على صبيّةٍ تصغره بأربع سنوات. بارَكَ هذا الحدث السعيد ثمانية أو عشرة حاخامات تجلّت في محيّاهم أماراتُ الوقارِ والمهابة. قُدِّرَ للكاتب أن يزورَ دمشق مجدّداً في صيف ١٨٩٣، ويعرّج على البيت الفخم الذي استضافَهُ قبل زهاء ثلاثين عاماً. لم يطرأ على الدار تغيّراتٌ تُذكَر بين الزمنين، باستثناء العريس الذي أصبح كهلاً شابت مِنْهُ الذوائب. ابتهج السيّد لزبونة كبيرة غاية الابتهاج عندما ذَكَّرَهُ الزائرُ الفرنسي بأيّام الشباب. 

____________

هناك ترجمةٌ قصيرةٌ لسيرة Lallemand (١٨٢٦ - ١٩٠٤) على الويكيبديا الألمانيّة (١).  دَرَسَ لالّمان المحاماة ومارس الصحافة والترحال والرسم والفنّ التشكيلي. تاريخ صدور الكتاب غير مذكور وإن أمكن الاستدلال عليه بطريقةٍ غير مباشرة من:

١. تنويهٍ في مجلّةٍ لهواةِ الفنّ من منتصف تسعينات القرن التاسع عشر:
٢. قراءة الكتاب: أفادَ المؤلّفُ أنّهُ زارَ دمشق للمرّة الثانية في تمّوز ١٨٩٣ قبل حريق الأموي (٢) الذي ذَكَرَهُ ولم يشهَدهُ. إذاً التاريخ ليس قبل ١٨٩٣. أشارَ الكاتبُ أيضاً إلى العمل الجاري على خطّ حديد دمشق بيروت الذي لم يُنْجَز بعد؛ دُشِّنَ هذا الخطّ عام ١٨٩٥، والكتابُ يالتالي ليس أحدثَ من هذا التاريخ.  

يتوزّع "القدس ودمشق" على ١٣٠ صفحة من القطع الكبير، مع العديدِ من الصور التاريخيّة واللوحات خارج النصّ. الجمل بما حمل متوافرٌ بالمجّان على هذا الرابط

____________

سهّلَ انفتاحُ الإمبراطوريّة العثمانيّة على أوروپا في أعقاب حرب القرم وتحسّن وضع الأقليّات عموماً مهمّةَ الكاتب، إذ أصبح بإمكانِ غير المسلمين زيارة الجوامع والمعالم الإسلاميّة. 

لا يقتصرُ وصفُ الديارِ المقدّسة على القدس وإن نالت حصّة الأسد (٣)، وبناءً عليه فلنتعرّض بسرعة لزهرة المدائن من وجهة نظر أديب ورحّالة أوروپي لا تخلوا من العنصريّة كما هو الحال في معظم سرديّات ذلك الزمن. مدينةُ القدسِ بائسةٌ ومظلمة، وهناك تناقضٌ كبير بين بهاء الحرم الشريف بما فيه قبّة الصخرة من جهة، وسائر المدينة من جهةٍ ثانية. يشوب الازدراءُ نَظْرَةَ Lallemand لمسيحيّي فلسطين، الذين أدان تناحرَ طوائِفِهِم بعضها مع البعض الآخر، بينما امتَدَحَ الجنود الأتراك ذوي الثياب الرثّة، وسَهَرَهُم على الأمن خاصّة في المناسبات الدينيّة وحول كنيسة القيامة . عددُ سكّان القدس في زَعْمِهِ "على الأقلّ" خمسون ألفاً، منهم ٣٥٬٠٠٠ إلى ٤٠٬٠٠٠ يهودي. قارنتُ، للتحقّقِ من هذا الرقم، مع طبعة عام ١٨٩٤ من دليل Baedeker الذي قدَّرَ نقلاً عن مصدرٍ من عام ١٨٨٧ إجمالي عدد سكّان القدس بحوالي ٤٠٬٠٠٠ منهم ٢٨٬٠٠٠ يهودي، مضيفاً أنّ الهجرة اليهوديّة كانت تتسارع بسبب الاضطّهاد في روسيا ورومانيا (٤). تعاطَفَ المؤلّفُ مع اليهود وحبَّذَ أن تصبحَ القدسُ عاصمتَهُم شريطة أن يتركوا للمسيحييّن والمسلمين أماكنَهم المقدّسة (٥). أضافَ Lallemand أنّ اليهود، المكابييّن خصوصاً، علّموا العالم الوطنيّة وأنّ الإنسانيّةَ مدينةٌ لهم. 

____________

أخذت بيروت حصّةً صغيرة من اهتمام الكاتب كمدينةٍ ساحليّةٍ توسّعت كثيراً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتضاعف عددُ سكّاِنها ليصبحَ ١١٥٬٠٠٠ نسمة منهم ٣٣٬٠٠٠ مسلم. أفتى Lallemand أنّ دماءَ المسيحييّن في لبنان "فينيقيّة"، وأنّ جميعَهُم عمليّاً يتكلّمون الفرنسيّة. 

____________

فَتَنَت دمشق الزائرَ الأوروپّي كما لم تفعل القدس ولا غير القدس في الشرق الأدنى، ولم يكن الوحيد في هذا المضمار. يَكْمُنُ سحرُ العاصمةِ السوريّة في التفاوت الفجائي الصارخ بين الجبال والسهوب الجرداء حولَها من جهة، وغوطَتِها الغنّاء من جهة ثانية. تعذّر تمييزُ المدينةِ بين أشجارِها اللهمّ إلّا بالإطلالِ من قاسيون أو شرفات المآذن. عدد سكّان دمشق ١٢٥٬٠٠٠ إلى ١٣٠٬٠٠٠ منهم ١٠٬٠٠٠ مسيحي و ٧٬٠٠٠ يهودي. أسواق دمشق شديدة الازدحام بالبشر والدوابّ، من الحمير والبغال والخيول والجمال، ودخول العرباتِ إليها من العسر بمكان (٦). الكلابُ في كلِّ مكان، وتتعاون مع الطيورِ الجارحة في تنظيفِ فضلاتِ المدينة في غياب خدماتٍ بلديّة تستحقّ الذكر. الكاتب "يحبّ بطنه" بدلالة الأسطر العديدة التي تغنّى خلالَها بمأكولات دمشق من الشاورما إلى قمر الدين والكنافة، ومشروباتها المبرّدة من الليموناضة إلى العرقسوس ... للتبغ والقهوة مكان الصدارة في طقوس الضيافة الشاميّة والمضيف الذي لا يقدّمهما لزوّارِهِ يخالفُ العرفَ الاجتماعي وفي ذلك إهانة للضيوف لا تغتفر. أقام Lallemand في فندق دميتري، وزار مِنْهُ أسواقَ المدينة، ووصف حِرَفَ النسيج والنحاس والفسيفساء الخشبيّة، وادّعى أنّ معظم الحرفييّن المهرة مسيحيّون أو يهود، وأنّ المسلمين يزدرون الأعمالَ اليدويّة ويفضّلون التجارة. 

ختم المؤلّف بالتحذيرِ من مخاطر انفتاح دمشق على التقنيّةِ الغربيّة والعالم الخارجي وخاطَبَها بالقول:

"دافعي عمّا تبقّى من ثرواتِكِ ولا تستبدلي كنوزَكِ ببضائعِ الغرب الرخيصة... حافظي على كمالِ ضواحيكِ وزينةِ جوامِعِكِ المقدّسة... سيضيف الخطّ الحديدي بالتأكيد ضربةً جديدة لأصالتِكِ... يسعدني أن أتذكّر صورَتَكِ في أيّامِ مجدِكِ وأنّني حاولت ما في وسعي أن أخلّدها في صفحاتِ هذا الكتاب".

خَتَمَ Lallemand: "يتلاشى الشرقُ في الماضي كحلمٍ جميل يلوذ بالفرار".

____________

١. وليس الفرنسيّة. علَّ السبب يعودُ لكونِهِ من مواليد الألزاس
٢. احترق الجامع في تشرين أوّل ١٨٩٣.  
٣. خصّص الكاتبُ حيّزاً لا بأس به لبيت لحم ويافا.
٤. قدّرت طبعة Baedeker الأولى عام ١٨٧٦ عدد يهود القدس بين ٤٬٠٠٠ إلى ٨٬٠٠٠. 
٥. لا تختلفُ صياغةُ تصريح بلفور في جوهرها عن هذا الطرح المبكّر.  
٦. الإشارة بالطبع إلى العربات التي تجرُّها الخيول. 

2 comments:

  1. Bendjebbour Mohamed: Charles Martin Jacques Lallemand
    écrivain, peintre dessinateur et illustrateur. Français né en 1826 à Strasbourg décédé en 1904.

    ReplyDelete