Tuesday, March 29, 2016

عبد اللطيف الطيباوي وتاريخ سوريّا الحديث


نال عبد اللطيف الطيباوي درجَتَهُ في التاريخ من الجامعة الأمريكيّة في بيروت. ألّف كتباً عديدة قبل أن توافيه المنيّة عام ١٩٨١،  من هذه الكتب "تاريخٌ حديث لسوريّا بما فيها لبنان وفلسطين" الصادر عام ١٩٦٩ عن التاريخ السياسي للإقليم بدايةً من حملة ناپّوليون على مصر وجنوب سوريّا عام ١٧٩٨ ونهايةً بحرب حزيران ١٩٦٧. يتجاوز طول الكتاب ٤٠٠ صفحة لا أنوي تلخيصها ولا التعليق عليها وإنّما نقل أفكار الكاتب من خلال كلماتِهِ بأمانة مع التركيز على بعض المواضيع التي تُخالِف وجهةُ نظرِهِ فيها الدراسات التاريخيّة التقليديّة خصوصاً الغربيّة منها. لن أتعرّض لكثيرٍ من المواضيع التي أهرق فيها من الحبر ما هو أكثر من الكفاية إلّا ضمن أضيق الحدود. تجدر الإشارة أنّ مفهوم الكاتب لسوريّا جغرافي بالدرجة الأولى. 


الفصل الأوّل مقدّمة مختصرة عن أهميّة وديمومة أثر الفتح العربي في القرن السابع الميلادي، ومنها إلى الفتح العثماني في مطلع القرن السادس عشر، ليدخل بعدها في لبّ القصيد، أي الفترة التي بدأت مع حملة بوناپارت التي فشِلَت تحت أسوار عكّا بتعاون عثماني - إنجليزي لمع فيه نجم أحمد باشا الجزّار.

يتعرض الفصل الثاني للحركة الوهابيّة التي قضى عليها والي مصر محمّد علي ثمّ يتطرّق إلى زيادة نفوذ الأقليّات الدينيّة المسيحيّة وخصوصاً اليهوديّة ويفسّر ذلك (صفحة ٤٦) بكونِ هذه الأقليّات أكثر مطواعيّةً للحكّام والولاة، خاصّة إذا تعلّق الأمر بمواضيع مشبوهة أخلاقيّاً (كممارسة الربا) ممّا يربأ عنه شيوخ المسلمين التقاة. ضَرَبَ الطيباوي مثال حاييم فارحي الذي جمع ثروةً ضخمةً كمستشار في الأمور المالية. يعرّج الكاتب بعدها على ثورة اليونان في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، التي افتتحها اليونانيّون بذبح المسلمين.

الفصل الثالث عن احتلال إبراهيم باشا سوريّا واستغلالها اقتصاديّاً لصالح محمّد علي وفرض الخدمة العسكريّة الإلزاميّة التي أثارت إستياء الكثير من السورييّن. حابى إبراهيم باشا مسيحيّي سوريّا خصوصاً والأقليّات عموماً وزاد نفوذ حّنا بحري في الأمور الماليّة. يذكر طيباوي في الصفحة ٩٠ باختصار غير معهود "قضيّة دمشق" عندما اختفى الأب توما الكبّوشي واتُّهِمَ اليهود باستعمال دمِهِ لخبز فطيرهم ويبدوا أنه يسلّم ضمناً، وإن لم يقل ذلك صراحةً، بأنّ بعض اليهود قاموا فعلاً بقتل الراهب بعد سرقته ويستشهد بميخائيل مشاقة الذي قال ما معناه أنّه لو تعاونت الطائفة اليهوديّة عوضاً عن إنكار ذنب بعض الأنذال فيها لما وصلت الأمور لما وصلت إليه.

بعد التطرّق إلى الإصلاحات العثمانيّة المعروفة بالتنظيمات يتعرّض الفصل الرابع إلى بواكير المشاكل الطائفيّة بين الدروز والموارنة وصعود الموارنة على حساب الدروز (أسياد لبنان الإقطاعييّن حتّى ذلك الحين)، ثمّ هجرة العديد من الدروز من جبل لبنان (الذي كان يدعى وقتها جبل الدروز) إلى حوران هرباً من الاضطهاد. زاد تدخل أوروپّا بحجّة حماية الأقلياّت بالتدريج: الروس للأرثودوكس، فرنسا للكاثوليك، بريطانيا للدروز واليهود والپروتستانت، كما زاد دور البعثات التبشيريّة. صدر عن الباب العالي عام ١٨٥٦ خطّ همايون الذي أعلن مساواة كلّ الرعايا العثمانييّن بغضّ النظر عن دينهِم. 


 تناول الفصل الخامس الحرب الأهليّة عام ١٨٦٠ أو بالأحرى المجزرة التي يُطْلَق عليها إسم "طوشة النصارى"، والتي أرجع الطيباوي خلفيّتها إلى تدخّل قوى خارجيّة و إقليميّة. يقول (صفحة ١٢٣) أن المصرييّن نزعوا سلاح الدروز وتركوا للمسيحييّن أسلحتهم وأنّ عملاء البريطانييّن قاموا بتوزيع الأسلحة والذخائر عام ١٨٤٠ (في إطار خططِهم لطرد إبراهيم باشا من سوريّا) ويضيف أن أحداث ١٨٦٠ رُويَت من وجهة نظر الموارنة ومن قِبل كتّاب متحاملين على الدروز والعثمانييّن وبالتالي الإسلام، مشدّداً على أنّ الدروز كانوا أقلّ عدداً وعدّةً من الموارنة وأن بداية سفك الدماء كانت عندما هاجم الموارنة الدروز في قرية عين دارا (صفحة ١٢٤)، ثمّ انتقلت الفتنة إلى دمشق عن طريق بعض المحرّضين الدروز ودامت المذبحة أربعة أيام إعتباراً من ٩ تمّوز وشارك فيها العديد من المسلمين. لم يستطع الوالي أحمد باشا احتواء العنف لعدم توافر قوّات كافية تحت تصرّفِهِ. يضيف الكاتب أنّ الدمشقييّن استهجنوا إعدام أحمد باشا بأمر الباب العالي وبواسطة فؤاد باشا، واعتبروه شهيداً. يستنتج طيباوي (صفحة ١٣٣) أنّ التشجيع الأوروپّي هو الذي غرّر بمسيحيّي سوريّا وحَمَلَهم على التطرّف بعد أن يقول (صفحة ١٣١) أنّ أحداً لم يعاقب هؤلاء على دورِهم في إشعال الأزمة التي بُولغ حسب ظنّهِ في دوافعها الطائفيّة على اعتبار أنّ المجزرة لم تطل اليهود. يختم المؤلف هذا الفصل بالتقليل من أهميّة المطابع اليسوعيّة منها والأمريكيّة في عمليّة إحياء التراث اللغوي العربي (صفحة ١٤٥) كونها ركّزت اهتمامَها بالدرجة الأولى على التبشير والمواضيع الدينيّة والطائفيّة وبالتالي كانت موجّهة للمسيحييّن فقط، بينما كانت مطابع بولاق والقسطنطينيّة مقبولة من كلّ العرب السورييّن.

الفصل السادس يسرد قصّة تضارب ولاءات السورييّن وبحثِهم عن هويّة، ثمّ ينتقل إلى الوالي مدحت باشا (حَكَم الشام ١٨٧٨-١٨٨١) وفي زعمه أنّ شعبيّة هذا الأخير وإنجازاتِه السوريّة مبالغٌ فيها (صفحة ١٥٧) وأنّه كان طموحاً يلعب على الحبلين. يأتي الكاتب بعدها إلى بدايات الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين من أربعينات القرن التاسع عشر أو قبلها، ثم ينتقل في الفصل السابع إلى علاقة السلطان عبد الحميد مع سوريّا والإنجازات التي تمّت في عهدهِ، كشقّ السكك الحديديّة وغيرها. تعاطُفُ الطيباوي مع عبد الحميد والعثمانييّن عموماً لا شكّ فيه. عزّز الباب العالي علاقتَهُ مع ألمانيا (صفحة ١٨٨) اعتباراً من أواخر القرن واستمرّ  التعاون بينهما بعد صعود جماعة الاتّحاد والترقّي وتركيّا الفتاة (صفحة ١٩٩).


الفصول ٨-١٠ عن الحرب العالميّة الأولى وما يسمّى بالثورة العربيّة الكبرى وما رافقها من وعود بريطانيا للهاشمييّن، ثمّ ما جرى بعد الحرب. تشغل هذه المواضيع حوالي ١٧٠ صفحة لا يمكن تغطيتها في أسطر قليلة، وهناك في كلّ الأحوال تيهورٌ من الكتب التي تناولتها بالتفصيل. الفصل الحادي عشر عن فترة انتداب فرنسا والثاني عشر (والأخير) عن عهد الاستقلال مروراً بالانقلابات العسكريّة والوحدة والانفصال والبعث إلى كارثة ١٩٦٧ خاتمة السرد.



إذا بقي ذرّةٌ من الشكّ بعد مطالعة ٤٢٠ صفحة عن كون الكاتب إسلاميّ الهوى، فستتبدّد في سطورِهِ الأخيرة: "طالما مشت سوريّا خلال تاريخِها إلى النصر والمجد تحت راية الإسلام، وإلى الآن لم تستطع أن تثبت قدرتها على فعل الشيء نفسِهِ تحت راية العروبة". 



Monday, March 28, 2016

Salon d’une maison de Damas

Dessin de Barclay
D’après une photographie

La Syrie d'aujourd'hui 1875-1878 
Lortet, Louis 1836-1909
Paris Hachette 1880-1882
Le Tour du Monde

"Dans la ville, un grand nombre de palais magnifiques à l’intérieur n’ont l’air, au dehors, que de véritables masures. Ces splendides habitations sont aujourd’hui presques toutes entre les mains des Israélites; quelques-unes sont encore habitées par des familles nobles du pays, à moitié ruinées, depossédées de leurs fiefs par le gouvernement turc, et qui ne peuvent continuer le luxes de leurs ancêtres...

De vaste salons précédés d’un selamlik, c’est-à-dire d’une sorte de vestibule destiné à recevoir les étrangers, s’ouvrent sur la cour et sont séparés d’elles par quelques marches en marbres blanc. Ces salles, très élevées, sont d’une richesse d’ornementation impossible à décrire...."


اللوحة عن صورة لبيت خزنة كاتبي/نظام في سبعينات القرن التاسع عشر و النص ترجمة عن الطبيب و المستشرق الفرنسي لورتيه.

"يوجد في المدينة عدد كبير من القصور البديعة من الداخل و التي تبدو كالأكواخ الحقيرة المتداعية من الخارج. يمتلك اليهود حالياً معظم هذه البيوت الرائعة و لكن لا يزال بعضها في حوزة عائلات من أشراف البلد نصف مفلسين بعد أن إستحوذت الحكومة التركية على إقطاعاتهم و من هنا عجزهم عن مجاراة بذخ أسلافهم.... 

يقود السلاملك (و هو نوع من الممر المعد لإستقبال الزوار الغرباء) إلى قاعات فسيحة مفتوحة على صحن البيت و مفصولة عنه ببضع درجات من المرمر الأبيض. هذه القاعات المرتفعة غنية بزخارف يعجز عن جمالها الوصف...."






Véranda (liwân) d’une maison de Damas

Dessin de Barclay
D’après une photographie

La Syrie d'aujourd'hui 1875-1878 
Lortet, Louis 1836-1909
Paris Hachette 1880-1882
Le Tour du Monde


"Dans la cour de ces riches demeures s’ouvre une vaste véranda, appelée liwân, dont le portique ogival supporte un plafond à caissons très richement fouillés. Les parois sont couvertes d’ornements en entrelacs les plus gracieux, d’incrustations en marbres, de stucs, de peinture. Des larges divans endossés contre les murailles servent à faire le kief, le soir, lorsque la rosée tombe abondamment de ce ciel toujours étincelant."


إيوان أو ليوان بيت دمشقي حسب الطبيب و المستشرق الفرنسي لورتيه

"تطل شرفة واسعة تسمى الليوان على صحن هذه البيوت الباذخة. للليوان رواق ذو قوس قوطية يعلوها سقف شديد الغنى بالزخارف الدقيقة المحفورة. تغطي الجدران زخارف متشابكة في منتهى الجمال ملونة و مرصعة بالمرمر و الجص. تستند على الجدران مقاعد كبيرة مخصصة للإسترخاء و القيلولة في المساء عندما يهطل قطر الندى من هذه السماء الساطعة أبداً.."




Sunday, March 27, 2016

Estrade dans un jardin de Damas



كان لوي شارل إميل لورتيه (1836-1909) طبيباً و مستشرقاً فرنسياً متعدد الإهتمامات بين علوم النبات و الحيوان و غيرها و كتب العديد من المؤلفات أحدها "سوريا اليوم" و الذي صدر بين 1880-1882 و يمكن تحميل نصه الكامل بالمجان على الإنترنت. الصورة المرفقة لمنصة أو دكة في إحدى حدائق دمشق و الأسطر التالية ترجمة لما كتبه عنها. 

"تزين حدائق عامة بعض مناطق المدينة حيث نجد مقاهي بهية الإنارة في المساء تظللها أشجار باسقة و تتخللها جداول صافية المياه.... هذه الحدائق مزودة بالعديد من المنصات المستندة على أوتاد على إرتفاع مترين من الأرض و يسترخي الدمشقيون على هذه المنصات دون مبالاة للتدخين و إحتساء القهوة".









Dessin E. Ronjat
D’après une photographie

La Syrie d'aujourd'hui 1875-1878 
Lortet, Louis 1836-1909
Paris Hachette 1880-1882
Le Tour du Monde

"Certaines parties de la ville sont ornées de jardins publics au milieu desquels se trouvent des cafés brillamment illuminés le soir; ils sont ombragés de grands arbres et sillonnés par des ruisseaux limpides...Les jardins sont pourvus d’estrades établies sur des pieux à deux mètres au-dessus du sol, sur lesquelles les Damasquins s’étendent non-chalamment pour fumer et prendre le café."



Sunday, March 20, 2016

Between Fez and Fedora


The fez was an innovation introduced under the Ottoman Sultan Maḥmūd II (1808-1839), who might as well be considered the Atatürk of the 19th century. During his reign, efforts were made to modernize the ailing empire and catch up with the rising West. The Janissaries were exterminated, administrative reforms were introduced, and the European dress was encouraged, with the fez replacing the traditional turban. Unluckily for Maḥmūd, he had to face the Wahhābī menace, Greece's revolt, and—most alarmingly—the ambitions of his vassal Muḥammad ʿAlī, Egypt's formidable governor. Egypt became independent in all but name, and Cairo morphed into a new Constantinople.

A century later it was the turn of Atatürk to implement more drastic measures aimed at reinvigorating a war-torn Turkey. His purpose was to make the new republic part of Europe at the expense of its oriental heritage, and for that he spared no measure, however draconian. The alphabet changed from Arabic to Latin, the fez was banned and replaced by the fedora hat, etc. Ataturk's relation with Islam was nevertheless ambiguous at best. It is true that he did his best to marginalize the role of religion and ʿulamāʾ in modern Turkey, but it also remains undeniable that his age witnessed the evacuation of the vast majority of Christians—suddenly deemed "Greeks"—from Asia Minor. Not to be outdone by "secular" Turkey, Greece rid itself of its Muslim "Turks."






Saturday, March 5, 2016

فيليپ خوري حتّي وتاريخ سورّيا


فيليپ خوري حتّي (١٨٨٦-١٩٧٨) أحد أشهر مؤرخي القرن العشرين للشرق الأدنى والعرب عموماً وسوريّا خصوصاً، ولا تزال كتبُهُ (تاريخ العرب ١٩٣٧، تاريخ سوريّا، خمسة آلاف سنة من تاريخ الشرق الأدنى ١٩٦١، وكثيرٌ غيرها) مراجع هامّةً للمختصّين والهواة إلى اليوم. ولد حتّي في جبل لبنان أواخر العهد العثماني ودرس - مثله في ذلك مثل أخيه الأصغر يوسف صاحب قاموس حتّي الطبّي - في الجامعة الأمريكيّة في بيروت عندما كانت تُدعى الكليّة الپروتستانتيّة السوريّة، ثمّ هاجرَ إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة ليستقرّ فيها نهائيّاً اعتباراً من عام ١٩٢٦، ويكرّس بقيّة حياتِهِ المهنيّة للتدريس والأبحاث التاريخيّة المتعلقة بالشرق الأدنى والإسلام واللغات الساميّة. 

صدرت الطبعة الأولى من كتاب "تاريخ سوريّا ولبنان وفلسطين" عام ١٩٥١ وأعيد طبع الكتاب عدّة مرات لاحقاً ونُقِلَ إلى اللغة العربيّة بتعاون الدكاترة جورج حدّاد وعبد الكريم رافق وجبرائيل جبّور. الكتابُ قسمان: الأولّ والأكبر (أكثر قليلاً من ٤٠٠ صفحة) يبدأ من العصر الحجري وينتهي مع نهاية العهد البيزنطي؛ والثاني (٣٠٠ صفحة) يغطّي الفترة الواقعة بين الفتح العربي في القرن السابع الميلادي إلى منتصف القرن العشرين. في اعتقادي أنّ هذا التوزيع منصف لبلادٍ يبلغ عمر الحضارة فيها آلاف السنين، معظمها قبل العرب والإسلام.

الكتاب شيّق وممتع، يضيفُ إلى سردِهِ للأحداث التاريخيّة والعلاقات السياسيّة، تغطيةً لا بأس بها أبداً للحياة الفكريّة والثقافيّة والقانونيّة والإداريّة والدينيّة والمعماريّة والفنيّة، ليس فقط في العهود الساميّة القديمة، وإنّما أيضاً الفارسيّة واليونانيّة والرومانيّة والبيزنطيّة التي تهملها أكثر المراجع العروبيّة كفتراتٍ استعماريّة ممجوجة. يتعيّن هنا التوكيد أنّ الكتاب موجّه للعامّة بالدرجة الأولى، ومع ذلك يعتمد منهجيّاً على النصوص التاريحيّة المتوافرة والآثار الماديّة من الأطلال والأدوات والخزف والمسكوكات في سوريّا والبلاد المجاورة. بالنسبة للعهد الإسلامي، ركّز حتّي وبحقّ على التجربة الأمويّة التي اعتبرها عهداً ذهبيّاً في تاريخ سوريّا رغم القلاقل السياسيّة و الحروب الأهليّة. بالمقابل جار العهد العبّاسي على الشام التي تدهور وضعُها مع انتقال مركز الإمبراطوريّة إلى الشرق، ومن ثم تفتّتها إلى دويلاتٍ متنافسة ومتناحرة.

على العكس من لامنس، لا يمكن اتّهام حتّي بأي تحيّز ضدّ الإسلام والعرب ودون أدنى مساس بالموضوعيّة.  نَهَلَ المؤلّف من المصادر الأصليّة العربيّة منها والأعجميّة متوخّياً تحرّي الحقائق، وبذل فصارى جَهْدَهُ في استقراء السرديّات بعيداً عن العواطف كما نرى في الفصول التي عالجت فترة الحملات الصليبيّة ومَن عاصَرَها بدايةً من عماد الدين زنكي ونهايةً بانسحاب الإفرنج من جزيرة أرواد. ينتهي الكتاب مع سقوط الإمبراطورية العثمانيّة دون التطرّق إلى الفترة التي سبقت الإستقلال إلا ضمن أضيق الحدود كموضوعٍ لم تُكْتَب قصّته بعد.

لجميع محبّي سوريّا، المهتمّين بتاريخها، ممّن لا يملكون من الوقت ما يسمح بقراءة أكثر من كتاب عنها، ولا التأهيل المهني للتمييز بين الحقيقة والدعاية، يبقى كتاب حتّي بعد ٧٤ سنة من نشرِهِ أجمل وأكمل ما كُتِبَ عنها بلا منازع.

أرفق أدناه رابطيّ تحميل التعريب والأصل الإنجليزي. 







Tuesday, March 1, 2016

هنري لامنس وتاريخ سوريا



الأب اليسوعي Henri Lammens (١٨٦٢-١٩٣٧) أحد ألمع المستشرقين الأوروپييّن، ولا مبالغة في القول أنّ معرفتَهُ بالنصوص العربيّة والإسلاميّة القديمة تجاوزت الغالبيّة العظمى من علماء العرب والمسلمين، ناهيك عن خِبْرَتِهِ بالكتابات اليونانيّة واللاتينيّة. ولد لامنس في بلجيكا و التحق بالكليّة اليسوعيّة في بيروت عن عمر ١٥ سنة وفي النهاية وافته المنيّة ودُفِنَ في المدينة التي أصبحت عاصمةً للبنان. ألّف لامنس الكثير من الكتب عن محمّد والإسلام من منظور استشراقي أثار تحيُّزُهُ استهجان البعض وإن استمدّ مادّتَهُ من استقراءٍ متعمّق ومبتكر للنصوص والمخطوطات الإسلاميّة.

أستعرض في السطور الآتية كِتَابَهُ الشهير عن تاريخ سورّيا (الرابطان أدناه) الذي صَدَرَ عام ١٩٢١ باللغة الفرنسيّة عن المطبعة الكاثوليكيّة في بيروت. الكتاب موزع على جزأين، بلغ إجمالي عدد صفحاتِهما حوالي ٥٥٠. الكتاب متوافرٌ بالمجّان على الشبكة وعلى علمي لم يُعرَّب إلى اليوم. لهذا العمل أهميّة خاصة كأحد أوائل المؤلَّفات عن تاريخ سوريّا إن لم يكن أوّلها. السبب بسيط: سورياّ ككيان جغرافي سياسي ولدت مع انتداب فرنسا،عكس سوريّا الجغرافيّة التي يبلغ عمرها آلاف السنوات. يجدر التنويه أن لامنس ألّفَ الكتاب تلبيّةً لطلب الجنرال غورو. 

استعرض الكتاب تاريخ سوريّا من منطَلَقٍ معاكس لمعظم ما يُدَرَّس في المناهج الحكوميّة السوريّة التي تعتبر سوريّا "قطراً" في وطنٍ عربيٍّ مزعوم خطَّ تاريخَهُ "العرب الساميّون" منذ البداية. غطّى مصلح السامييّن وفقاً لهذا التعريف "العرب الفراعنة" واستثنى اليهود (اللغة العبريّة ساميّة دون أدنى شكّ ولكن ما علينا) . الفرس واليونان والرومان والبيزنطيّون "غزاة" بينما العرب في القرن السابع الميلادي "فاتحون"، أتى بعدَهم المستعمرون من المماليك والعثمانييّن وهلمّجرّا، حتّى جلاء الفرنسييّن عام ١٩٤٦. لا يقلّ المنظور الإسلامي التقليدي عن تاريخ العرب وسوريّا طرافةً عن المنظور العروبي، عندما يعتبر كلّ ما سبق الإسلام عهوداً جاهليّةً لا داعي لإضاعة الوقت في دراسَتِها ولا حتّى حماية آثارها (على الأقل بالنسبة للوهابييّن المتزمّتين). اعتَبَر لامنس العكس هو الصحيح: تاريخ سوريّا الإسلامي برمّتِهِ انحطاطٌ من الأموييّن إلى العثمانييّن دون استثناء والتدخّل الأوروپّي بما فيه الصليبي أنعش البلاد الرازحة تحت النير الإسلامي.

استهلّ الكاتبُ سَرْدَهُ بفصلٍ تمهيدي لا يتجاوز ٢٩ صفحة لخّص فيه تاريخ سوريّا حتّى الفتح العربي بعنوان "القوميّة السوريّة"، تحدّث فيهِ عن وحدة البلاد الجغرافيّة والعرقيّة وحيويّة السورييّن وكيف استطاعت سوريّا هضم العديد من الغزاة نهايةً بالعهد البيزنطي الذي مزّقته الخلافاتُ الدينية حول الثالوث وطبيعة المسيح، أضِف إليها حروبٌ لا نهايةَ لها ضدّ الفرس. ختمَ لامنس هذا الفصل بظهور ما أسماه الخطر العربي في القرن السابع للميلاد. سلّم المؤلِّف أنّ تلخيص آلاف السنين ببضعة صفحات مبتسرٌ أكثر ممّا ينبغي ولكنّه تذرّع بضيق الوقت الذي منحه إيّاه الجنرال غورو لإتمام الكتاب.

الفصلان الثاني والثالث تعريف بالجزيرة العربيّة وكيف كانت بدايات الإسلام فيها بقيادة محمّد. الفصل الرابع يسرد قصة الفتح العربي لسوريّا نهايةً بتولّي مروان ابن الحكم كرسي الخلافة ويتحدّث عن استغلال الفاتحين لأهل الذمّة الذين أثقلوهم بالضرائب رغم اعتمادهم شبه الكامل عليهِم في الإدارة إذ اقتصرت مساهمة العرب على الشؤؤن الماليّة والعسكريّة. لا داعي للدخول في تفاصيل الحروب الخارجيّة والأهليّة فهي غنيّةٌ عن التعريف. الفصل الخامس عن سوريا في عهد المروانييّن و كيف جرى تعريب الإدارة، وهنا يتعرّض المؤلِّف إلى الإنجازات الفنيّة والمعماريّة كالجامع الأموي وقبّة الصخرة وينتهي بحمّام الدم العبّاسي عام ٧٥٠ للميلاد. الفصل السادس يغطّي الحياة الثقافيّة تحت الأمويين وانتشار الإسلام في سوريّا ووضع الأقليّات الدينيّة والموالي والعبيد كما يتطرّق لزيادة عدد العرب والترف الذي تنعّموا فيه على حساب بقية السورييّن. الفصل السابع يروي قصّة إذلال سوريا تحت العبّاسييّن ثم تفكّك الدولة العباسيّة وصعود نجم الفاطمييّن (اسماعيلييّن) والدروز وصولاً إلى العهد السلجوقي. يتعرّض الكاتب أيضاً إلى الصوفيّة والمتصوّفين.

يفتتح لامنس الفصل الثامن دون مقدمات بالجزم أن مؤلِّف القرآن هو محمّد، ويفصّل مصادر التشريع الإسلامي والمدارس الفقهيّة الأربع قبل أن يتابع التعريف بالصوفيّة ومنها إلى نبذاتٍ عن مختلف الطوائف الإسلاميّة الشيعيّة من اثني عشريّة وزيدييّن واسماعيلييّن ودروز ونصيرييّن نهايةً بالوهّابييّن والبابييّن والبهائييّن. 

الفصل التاسع يتحدّث عن توسّع النفوذ الفرنسي و علاقات الإفرنج مع المشرق مروراً بشرلمان. الفصل العاشر مخصّص للحملات الصليبّية والحادي عشر عن تنظيم الدويلات الصليبيّة. يسلّم الكاتب أنّ الإفرنج ارتكبوا بعض المجازر ولكنّه يتدارك فيقول أنّ الروايات عنها مُبَاَلٌغ فيها للغاية وأنّهم - أي الصليبيّن - لم يكونوا أكثر دمويةً من غيِرِهم وأنّ الحروب لم تقطع الروابط التجاريّة بين الغرب والشرق ولا بين المسيحييّن والمسلمين، ويشيد بالازدهار العمراني لسوريّا في ذلك العهد، الذي لم تعرفه البلاد منذالرومان، وبعدالة الصليبييّن مع المسلمين والمسيحييّن مستشهداً بالرحّالة الأندلسي المسلم ابن جبير الذي زار سوريا في أواخر القرن الثاني عشر. 

الفصل الثاني عشر يتحدّث عن الفوضى تحت المماليك واستباحة دمشق على يد تيمورلنك كما يستعرض بدايات تشكّل هويّة لبنانيّة. الفصل الثالث عشر عن الفتح العثماني وظهور المعنييّن في لبنان. الفصل الرابع عشر عن بدايات الشهابييّنالفصل الخامس عشر عن مآثر ضاهر العمر وأحمد باشا الجزّار وبوناپارت. الفصل السادس عشر عن الوهابييّن ومحمّد علي واحتلال ابراهيم باشا المصري لسوريّا وصولاً إلى مجزرة ١٨٦٠ وتأسيس متصرفيّة جبل لبنان

الفصل السابع عشر عن عهد السلطان عبد الحميد الثاني وبدايات الحركة الصهيونيّة والتغلغل الثقافي الفرنسي في سوريّا. الفصل الثامن عشر عن ظهور جمعيّة الاتّحاد والترقّي أو تركيّا الفتاة، تطوّر الهويّة السوريّة والمطالبة باللامركزيّة، مذابح الأرمن. الفصلان التاسع عشر والعشرون مخصّصان للحرب العالميّة الأولى أو ما عُرِفَ وقتها بالحرب العظمى وهنا لا يفوت الكاتب أن يسخر من تفاهة إسهام "الثورة العربيّة الكبرى" في المجهود الحربي. 

الفصل الحادي والعشرون (الأخير) يطنب ويسهب في حبّ السورييّن لفرنسا وعرفانِهم لجميلِها في تحريرِهِم من نير الأتراك ويشير أنّ استطلاعات الرأي أكّدّت - في جميع الأقاليم التي تمكّن أهلُها من الإدلاء برأيهم بحريّة - بما لا يحتمل الشكّ  تفضيل الأهالي لانتداب فرنسا على حكم الحجازييّن. فيصل كان ألعوبةً في يد بريطانيا ووافق على مخطّطاتِها في فلسطين، وبالمقارنة أحجم عن التعاون مع غورو النبيل واستفزّ الفرنسييّن وأعمل أنصارُهُ المذابح في رقاب المدنييّن المسالمين تحت حماية فرنسا.  كانت النتيجة إنذار غورو الشهير ومعركة ميسلون ثمّ "استقلال سوريّا" تحت وصاية فرنسا. يبرّر الكاتب تقسيم البلاد وخصوصاً فصل "لبنان الكبير" عنها، بضرورةٍ لا مفرّ منها كون لبنان، "عقل سوريا"، أكثر تطوّراً من سائر الشرق الأدنى اقتصاديّاً وفكريّاً وبالتالي كان لا بدّ من مراعاة وضع خاصّ له لا يمنع قيام نوع من التشارك الفيدرالي بين الدويلات السوريّة على المدى البعيد. 

بغضّ النظر عن اعتبارات الموضوعيّة والتعرّض لتاريخ سوريّا قبل الإسلام بجرّة قلم، يبقى الكتاب سلس القراءة وغني بالمعلومات رغم افتقاره إلى الصور والمصوّرات. أزيد فأقول أنّ تحيّزَهُ يجعلهُ أكثر جدارةً بالقراءة بهدف الاطّلاع على وجهةِ نظرٍ مغايرة للكليشيهات التي يدرسها العرب عموماً والسوريّون خصوصاً. تعيّن انتظار ٣٠ سنة قبل ظهور كتابٍ آخر عن تاريخ سوريّا بلغةٍ مختلفة (إنجليزيّة) ومن منظورٍ مختلفٍ تمام الاختلاف للدكتور فيليپ خوري حتّي. لهذا حديث مستقلّ.