
الكتاب، لتوخّي الدقّة، أشمل من ذلك، بيد أنّ مائتيّ صفحة (حوالي أربع أخماسِهِ) من مَتْنِهِ تغطّي نصف القرن المنصرم بين الحرب العالميّة الأولى ونهاية الستّينات حصراً. المؤلِّفة، تابِثا پتران، صحفيّةٌ أمريكيّة من مواليد المكسيك أقامت في العالم العربي بدايةً من العام ١٩٥٧وكانت مقيمةً في بيروت عندما صدر كتابهُا، موضوع الحديث، عام ١٩٧٢.
تبدأ پتران بتعريف سوريّا جغرافيّاً، مع التنويه أنّ اليونانييّن كانوا أوّل من استعمل هذه التسمية، أمّا العرب فقد أطلقوا على هذه الأقاليم اسم "بلاد الشام"، أي الشمال نسبةً لمكّة والحجاز. نأتي بعد ذلك إلى استعراض مكوّنات الشعب السوري الدينيّة والإثنيّة. تنتقل المؤلِّفة، بعد لمحةٍ سريعةٍ عن تاريخ سوريّا القديم، إلى القرن التاسع عشر عندما هبّت رياحُ الحداثة مع حملة ابراهيم باشا ابن محمّد علي، والتنظيمات العثمانيّة، وما تلاها من بدايات "الوعي السياسي" حسب تعبيرها.
تاريخ الحرب العالمية الأولى و "الثورة العربيّة الكبرى" ومراسلات حسين مكماهون معروف. تبنّت الكاتبة وجهة النظر الشرقيّة التقليدية المتمثّلة في "خيانة" الإنجليز للعرب (للتذكير وعود بريطانيا للعرب، كانت للهاشمييّن بالدرجة الأولى، وعلى درجةٍ كافيةٍ من الغموض بحيث يمكن تفسيرها بأكثر من طريقة، مع ذلك تكرّمت إنجلترا على فيصل بعرش العراق، وأقطعت شقيقَهُ الأكبر عبد الله إمارة شرق الأردنّ). جاء العهد الفيصلي (تشرين أول ١٩١٨ إلى تمّوز ١٩٢٠) بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ومن ثمّ عهد الانتداب الفرنسي. تزامن هذا الأخير مع تزايد الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين. لا يمكن إعطاء نكبة ١٩٤٨ حقَّها في مراجعةٍ سريعة لكتابٍ مخصّص بالدرجة الأولى لسوريّا كما رسمت حدودَها فرنسا.
بدأت الانقلابات بعد سنواتٍ معدودة من الاستقلال، وتحديداً عام ١٩٤٩. هناك مؤلّفات أفضل لمعالجة الفترة بين ١٩٤٥-١٩٥٨، وحسبنا هنا الإشارة بشكلٍ سريع إلى عودة الحكم النيابي بعد سقوط الشيشكلي عام ١٩٥٤، ثمّ تصفية الحزب القومي السوري بعد مصرع المالكي عام ١٩٥٥، وصعود اليسار، وكيف تحوّل التعاون بين البعث والشيوعييّن إلى منافسةٍ أدّت مع عواملٍ إضافيّة إلى الوحدة السوريّة المصريّة عام ١٩٥٨. كرّست الوحدة صعود نجم عبد الحميد السرّاج، الساعد الأيمن لعبد الناصر في سوريّا، وحليفه في الصراع ضدّ الهاشمييّن وحلف بغداد.
تحدّثت الكاتبة مطوّلاً عن أخطاء الوحدة، واستغلال المصرييّن الاقتصادي لسوريّا، وتهميشهم للجيش السوري والضبّاط السوريين، وكيف بدأ الخلاف مبكّراً بين البعث وعبد الناصر، عندما رفض هذا الأخير اقتراح أن تحكم الجمهوريّة العربيّة المتّحدة لجنةٌ مكوّنةٌ من ستّة أشخاص، ثلاثةٌ منهم سوريّون: عفلق والبيطار والحوراني. من البدهي أن يتردّد عبد الناصر في قبول البعث كممثّل وحيد لجميع السورييّن ناهيك أن يتساوى عدد ممثليّ الإقليمين إذا أخذنا بعين الاعتبار وزن مصر الجغرافي والبشري مقارنةً مع الشام.
أتى الانفصال مع انقلاب عبد الكريم النحلاوي في أيلول عام ١٩٦١، وعاد اليمين إلى سدّة الحكم بمباركة ودعم ملك الأردن حسين والسعودييّن. أيّد أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار العهد الجديد، على الأقلّ في البداية، وكذلك فعلت "اللجنة العسكريّة" التي تشكّلت سرّاً في مصر عام ١٩٥٩، من مجموعةٍ من الضبّاط السورييّن (صلاح جديد، حافظ الأسد، محمّد عمران، حمد عبيد، سليم حاطوم، عبد الكريم الجندي، أحمد سويداني؛ هناك خلاف على عضويّتها الدقيقة). بالنتيجة اختلف البعث مع الحوراني وطُرِدَ هذا الأخير من الحزب في المؤتمر الخامس عام ١٩٦٢. كان عهد الانفصال حافلاً بالانقلابات وبعيداً عن الاستقرار، ممّا سهّل انقلاب الثامن من آذار ١٩٦٣، الذي ساهمت فيه ثلاثُ مجموعاتٍ من الضبّاط: بعثيّون وناصريّون وقوميّون عرب. انتمى منفّذ الانقلاب زياد الحريري (صهر الحوراني) إلى الفئة الأخيرة. شاب الغموض هوية الانقلاب في البداية، ممّا ساعد على نجاحه، إذ اعتقد زيدٌ أنّ عمراً يعمل لصالِحِهِ والعكس بالعكس. كان ردّ فعل السورييّن عموماً أنّه انقلاب كغيرِهِ وأنّ دوالَ دولتِهِ مسألةُ وقتٍ ليس إلّا.
تلى أحداث ٨ آذار إعلان الأحكام العرفيّة. تجدر هنا الإشارة أنّ قيادة البعث (عفلق والبيطار) لم تشارك في الانقلاب لا من قريب ولا من بعيد، بيد أنّ الضبّاط في اللجنة العسكريّة كانوا بحاجةٍ إلى الجهاز التنظيمي للحزب ولو كواجهة في البداية، وهكذا قاموا باستدعاء القيادة السياسيّة، ومن بعدها تمّ تطهير الجيش من الناصرييّن وجماعة زياد الحريري بالتدريج. بزغ نجم أمين الحافظ في الحزب الذي ازدادت قوّتُهُ وثقتُهُ، وإن احتاج لاستعمال العنف بين الفينة و الفينة، على سبيل المثال عندما تمرّد الناصريّون وعلى رأسِهم جاسم علوان صيف ١٩٦٣، وأثناء عصيان حماة ١٩٦٤. تلى احتكار البعث للسلطة نزاعٌ داخل الحزب بين اليمين أو "القومييّن" بقيادة أمين الحافظ ،واليسار أو "القطرييّن" أو "البعث الجديد" بقيادة صلاح جديد. انتهى الأمر بانتصار جديد في انقلاب دموي في الثالث والعشرين من شباط ١٩٦٦ انتهى معه دور القيادات المدنيّة التقليديّة للبعث في سوريّا إلى غير رجعة.
شهد منتصف الستّينات صراعاً بين البعث وعبد الناصر على قيادة اليسار و"القوى التقدميّة" في العالم العربي، وحفل بمزايدات البعث على الزعيم المصري في قضيّة تحويل مياه نهر الأردن و"تحرير فلسطين". طالب ممثلو سوريّا في مؤتمر القاهرة (كانون ثاني ١٩٦٤)، بدعمٍ من الجزائر، "بحرب تحرير شعبيّة" على غرار النموذج الجزائري لمواجهة الصهاينة. لا داعي للدخول في التفاصيل التي أدّت إلى كارثة ١٩٦٧ وإن كان من المفيد هنا التعرّض إلى أزمةٍ أطلق شرارتها بعض مفكّري اليسار (الذي كان في أوج قوّتِهِ في هذه المرحلة التي أذكر تماماً شعاراتها الطنّانة عن "الإشتراكيّة العلميّة" و"حرب التحرير الشعبيّة")، عندما حاولو جسّ نبض الشارع السوري في مقالٍ نَشَرَتَهُ مجلّة "جيش الشعب" في الخامس والعشرين من نيسان من ذلك العام؛ ورد، من جملة ما ورد في المقال، دعوةٌ إلى التخلّص من تقاليد الماضي ووضع "الدمى المحنّطة" أي "الله والدين والإقطاع والرأسمالية والاستعمار" في "متحف التاريخ". تلت نشرَ المقال موجةٌ من الإضرابات والاصطدامات مع عناصر الأمن، وأدرك القيّمون على مصائر البلاد أنّ مرؤوسيهِم تجاوزوا الخطوط الحمراء. بالنتيجة تمّ توقيف الكاتب والمحرّر والحكم عليهما بالأشغال الشاقّة المؤبّدة وإن جرى إطلاق سراحِهِما "بهدوء" فيما بعد.
أجرى البعث عدّة "إصلاحات" بعد الهزيمة، منها تأميم المدارس الخاصّة في أيلول ١٩٦٧، وأدّت ممارساتُهُ الاقتصادية، في جملة ما أدّت إليه، إلى هروب رؤوس الأموال من سوريّا.
لا شكّ أنّ الصراع على السلطة بين حافظ الأسد وصلاح جديد كان أهمّ تطوّرات الأعوام ١٩٦٨-١٩٧٠. سعى الأسد إلى تعزيزِ نفوذِهِ في الجيش، بينما ركّز جديد على الحزب. نفّذَ الأسد انقلابه الأول (أو "حركته التصحيحيّة الأولى" إذا شئنا) في الخامس والعشرين من شباط ١٩٦٩، عندما احتلّت دباباتُهُ مواقعاً مفتاحيّةً في دمشق، واستولى أنصارُهُ على مبنى الإذاعة، وطردوا رؤساء تحرير البعث والثورة، وأحلّوا محلّهم جماعتهم. ردّت القيادة السياسيّة بإدانة تمرّد الجيش ضدّ الحزب، ودعت إلى مظاهراتٍ واضرابات. لم يكن الأسد في هذه المرحلة يملك القّوة الكافية للسيطرة على الحكومة، وبالتالي كان لا بدّ له من الوصول إلى اتّفاق مع صلاح جديد ولو إلى حين. بيد أنّ جديد خرج من الأزمة أضعف منه عندما دخل إليها، واضطّر أنصارُهُ إلى نشرِ مقالاتِهم في جريدة "الراية" من لبنان، بعد أن أغلقت الصحافة المحليّة أبوابَها في وجوههم.
استمرّت ازدواجيّة السلطة حتّى خريف ١٩٧٠، عندما قام الأسد بنقل ما تبقّى من أنصار صلاح جديد في الجيش، وردّ مؤيّدو هذا الأخير في المؤتمر القومي الاستثـنائي العاشر (الثلاثون من تشرين أول وحتّى الثاني عشر من تشرين ثاني) بطرد الأسد وحليفه مصطفى طلاس من مناصبهما في الحكومة والجيش. كانت ردة فعل الأسد فوريّةً واستولت وحدات الجيش على مكاتب الحزب والمنظمات الشعبية، وأودعت عدداً من القيادات السياسيّة والضبّاط الموالين لجديد السجن دون حاجةٍ إلى سفك الدماء.
Tabitha Petran, Syria, Nations of The Modern World. Praeger Publishers, New York 1972.