Monday, May 30, 2016

حافظ الأسد والصراع على الشرق الأوسط

 تبقى كتب باتريك سيل "الصراع على سوريا" الذي صدر في منتصف الستينات و "الأسد" أفضل ما أنتجه في حياته المهنية الغنية. تفصل بين الكتابين فترة تتجاوز العشرين عاماً تحولت فيها سوريا بقيادة الأسد (كما يبدو من العناوين) من جائزة تتصارع عليها القوي الإقليمية و العالمية إلى طرف في الصراع الإقليمي في الشرق الأدنى.

  المؤلف بريطاني من مواليد 1930 و توفي عام 2014. كان من تلامذة ألبرت حوراني (1915-1993) مثله في ذلك مثل كاتب سيرة الأسد الإسرائيلي موشيه ماوز و صدر كتابيهما عن الأسد في نفس العام أي 1988 و يسبق كتاب ماوز عمل سيل ببضعة أشهر و لكن كتاب سيل أغنى مادة و يبقى بعد ثلاثة عقود أكمل و أفضل سيرة للرئِيس الراحل وعل أحد الأسباب أن سيل كان يستطيع مقابلة المسؤولين السوريين و في مقدمتهم الأسد نفسه إضافة لأولاده  بشرى و باسل مما يتعذر تحقيقه على أكاديمي إسرائيلي.








أهدى سيل الكتاب إلى قرينته السابقة السيدة رنا قباني إبنة الدكتور صباح قباني شقيق شاعر دمشق و سوريا العظيم نزار قباني. يقسم الكتاب إلى قسمين: الأول يغطي خلفية الأسد و طريقه إلى السلطة و الثاني قيادته من 1971 و حتى منتصف الثمانينات و مع الأسف لم تصدر طبعة ثانية تغطي الفترة حتى وفاة الرئِيس السوري عام 2000 والتي شهدت أحداثاً جساماً أهمها على الصعيد الدولي سقوط الإتحاد السوفيتي في نهاية عام 1991 و هو العام الذي بدأ بحرب الولايات المتحدة ضد العراق فيما عرف "بعاصفة الصحراء". من نافل القول أن سيل إستمر في الكتابة عن العرب عموماً و سوريا خصوصاً إلى النهاية بمهنية و إخلاص و عاصر الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 (و كان معارضاً له من الألف إلى الياء) كما عاصر بدايات ما يسمى بالربيع العربي في سوريا و كان لا مناص أن يتهمه البعض بالتشبيح و من سخرية الأقدار أن السيدة رنا قباني و التي ساعدته في تنقيح مسودة كتابه عن الأسد أصبحت من الثوار (المعتدلين طبعاً) مع كثير من المثقفين السوريين المغتربين.


رئِيس الجمهورية الدكتور نور الدين الأتاسي مع وزير الدفاع حافظ الأسد



الأسد مع قرينته السيدة أنيسة مخلوف و إبنته بشرى



الدكتور هنري كيسنجر حبيب العرب



الأسد مع ميخائيل غورباتشوف في موسكو عام 1987. غير سقوط الإتحاد السوفيتي الكثير في الشرق الأدنى


Saturday, May 28, 2016

أبو الهول دمشق


الدكتور موشيه معوز أكاديمي إسرائيلي من مواليد تلّ أبيب ١٩٣٥، خرّيج الجامعة العبريّة في القدس (ماجستير ١٩٦١)، وحائز على دكتوراة من أكسفورد في المملكة المتّحدة. درس معوز، علاوةً على العبريّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، العربيّة والتركيّة. خدم كغيرِهِ في الجيش الإسرائيلي (١٩٥٢-١٩٥٥). أقوم في الأسطر التالية بمراجعةٍ لكتابَهِ عن سيرة الرئيس الراحل حافظ الأسد. صدرت هذه الترجمة عام ١٩٨٨، قبل أشهر معدودة من كتاب پاتريك سيل الأكثر شهرةً "الصراع على الشرق الأوسط" في نفس العام.  أهدى معوز كتابَهَ إلى أساتذه ألبرت حوراني (١٩١٥-١٩٩٣)، وهذا الأخير كما هو معروف بريطاني من أصول لبنانيّة. كان معوز مستشاراً للحكومة الإسرائيليّة قبل تقاعُدِهِ، ويعتبر خبيراً في الشؤون العربيّة والإسلاميّة عموماً والسوريّة خصوصاً.

تستعرض المقدّمة أصول العلوييّن وعشائرهم والاضطّهاد الذي عانوه في الماضي، ومن ثمّ عائلة الأسد، حزب البعث، ودخول الشابّ حافظ إلى الكليّة الحربية (١٩٥٢-١٩٥٥) ليتخرج منها كضابط طيّار. أعطى المؤلّف أيضاً لمحةً عن اللجنة العسكريّة لحزب البعث إلى آخره. كلّ هذا معروف ومطروق وهناك مصادر أغنى بالتفاصيل.

قدّم معوز بعد ذلك شخصيّة الأسد "الرجل والقائد"، وكتب (صفحة ٤١) أنّه حتّى الذين يكرهونه ويخشونه، لا يملكون إلّا الإعجاب بِهِ؛ استشهد المؤلّف في هذا الصدد بأمثال حسنين هيكل وهنري كيسنجر وكريم بقرادوني (من الكتائب اللبنانيّة). الرئيس السوري لا يدخّن ولا يتعاطى المشروبات الروحيّة، ويمارس المطالعة والسباحة والتنس، ويستمع للموسيقى الغربيّة الكلاسيكيّة. الأسد شديد الذكاء، ذو أعصاب حديديّة، يتكلّم بهدوء ولكن بحزم، ولا يسرف في العبارات. الرَجُل ملتزمٌ فكريّاً بالوحدة العربيّة، أو بالأحرى سورّيا الكبرى والصراع ضدّ إسرائيل، ويعتبر نَفْسَهُ استمراراً لصلاح الدين وعبد الناصر.

استطاع الأسد، بعد وصولهِ إلى سدّة الحكم، أن يقضي على التناحر المزمن بين الضبّاط السورييّن، ونجح ليس فقط في تعزيز الجيش السوري عدّةً وعدداً، وإنّما أيضاً في تحويلِهِ إلى قوّةٍ مقاتلة فعّالة كما أثبتت حرب تشرين ١٩٧٣. للمرّة الأولى في تاريخ سوريّا أصبح الرئيس يسيطر على الجيش وليس العكس. سياسات الأسد تميّزت بالواقعيّة، وعلى سبيل المثال قبِلَت سورّيا بتوجيهِهِ قرار مجلس الأمن ٢٤٢ الذي رفضه صلاح جديد سابقاً، وقام الأسد بالتقارب مع الدول العربيّة "الرجعيّة" بغية توحيد الصفّ في مواجهة إسرائيل، وإنهاء عزلة سوريّا. أبدى الأسد، في مقابلة له مع جريدة نيوزويك بعد حرب تشرين - تحديداً في شباط ١٩٧٥ -، استعداده للاعتراف بإسرائيل إذا تحقّقت شروطٌ معيّنة. 

قصّة خيار السادات اتّباع مسار الصلح المنفرد مع إسرائيل أطول من أن تغطّيها سطورٌ قليلة. حاول الأسد جهْدَهُ أن يخلق بديلاً "شرقيّاً" لمصر كعمق استراتيجي لسوريا ، عن طريق التقارب مع لبنان والأردنّ والعراق ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة بنجاح متفاوت: تفجّرت الحرب الأهليّة في لبنان وتحّول شهر العسل مع الأردن إلى عداءٍ علني عندما ساند الملك حسين الإخوان المسلمين. حالة العراق أكثر تعقيداً إذ تبنّت بغداد المزايدة على دمشق في السبعينات، كما زايد البعث السوري على مصر عبد الناصر في الستّينات. مع ذلك ساند العراق سوريّا في معارضتها للسلام المصري الإسرائيلي إلى أن قلب صدّام حسين للأسد ظهر المجنّ، وطرد السفير السوري، ثمّ هاجم إيران - عوضاً عن إسرائيل - عام ١٩٨٠ لحماية ما أسماه "البوّابة الشرقيّة للأمّة العربيّة". لا داعي للدخول في نتائج "قادسيّة صدّام" الكارثيّة. أخيراً اعتمد ياسر عرفات نهجاً مستقلّاً لمنظّمة التحرير، وردّ الأسد بدعم أبو موسى والفصائل المعارضة للزعيم الفلسطيني.

وصف معوز فترة ١٩٧٠-١٩٧٦ "بسنوات الخير"، بيد أنّ النصف الثاني من السبعينات شهد، علاوةّ على تأزّم الوضع الإقليمي، تدهور الوضع الداخلي وتصعيد العنف عندما باشر الإسلاميّون المتطرّفون حملةً من الاغتيالات تناولت أشخاصاً محسوبين على السلطة (١). علّ مجزرة مدرسة المدفعية في حزيران عام ١٩٧٩ كانت نقطة اللاعودة في الصراع بين الحكومة والإسلامييّن المتشدّدين. كانت المواجهة النهائيّة في حماة مطلع ١٩٨٢، عندما هاجم العصاة المراكز الحكوميّة و قتلوا ٢٥٠ إنسان، معظمهم من الموظّفين، وأعلنوا "الجهاد ضدّ نظام الأسد الملحد"(٢). ردّ الجيش العنف أضعافاً مضاعفةً وقدّر الكاتب عدد القتلى في حماة بين١٠٠٠٠-٣٠٠٠٠ (٣). 

غزت إسرائيل لبنان في حزيران ١٩٨٢، بعد مأساة حماة بأربعة أشهر، وأسقطت عشرات من الطائرات السورية، وظهر عجز الجيش السوري عن حماية بيروت. بدا وقتها أنّ الأسد وسوريّا في الحضيض بين الأزمة الداخليّة والعزلة العربيّة والدوليّة والتهديد الإسرائيلي. زاد مرض الأسد - الذي عانى من الداء السكّري - الطين بلّةً، عندما أصيب بأزمةٍ قلبية في تشرين ثاني ١٩٨٣، وحصل لديه ارتكاس أدْخَلَهُ إلى المشفى مجدّداً في مطلع ١٩٨٤. اعتقد شقيق الأسد الأصغر رفعت أنّ الأوان قد آن ليحلّ محلّ أخيه (٤)، بيد أنّ الرئيس تعافى بما يكفي لأن يستنفر الجيش السوري ويعزل رفعت عن قيادة سرايا الدفاع ويحلّ هذه القطعات الرديفة. عُيّن رفعت بعدها نائباً الرئيس جمهورية وأحيل بنفس الوقت إلى الاستيداع. 

ترافقت هذه الأحداث مع قيام الرئيس اللبناني أمين الجميّل (٥) بتوقيع اتفاقيّة مع إسرائيل في ١٧ أيّار ١٩٨٣. عارض الأسد وسوريّا هذه الاتّفاقيّة بكل الوسائل بما فيها "الإرهاب"، حسب تعبير الكاتب، إلى أن تمّ إحباطها الذي يعتبرهُ البعض أكبر إنتصار للأسد في تاريخِهِ. 

أصبح "التوازن الاستراتيجي" مع إسرائيل شغل الأسد الشاغل، بعد توقيع معاهدة السلام المصريّة - الإسرائيليّة في آذار ١٩٧٩. حاول الأسد الردّ بتشكيل ما سُمّيَ "جبهة الصمود والتصدّي" (٦)، وبتوقيع معاهدة مع الاتحاد السوڤييتي عام ١٩٨٠.

ختم الكاتب بالقول أنّ الأسد، رغم جميع إنجازاته، عجز عن بناء أمّةٍ سوريّة نظراً لاعتماده على ولاء العسكر العلوييّن، وأن سياساته الإقليميّة، كدعم الموارنة في محنة لبنان عام ١٩٧٦، وتأييد إيران في حرب الخليج، أثارت نقمة الكثيرين من العرب والسورييّن. شكّكَ معوز بأن يستطيع خليفة الأسد في الحكم (٧) أن يحافظ على مكانة سوريّا غير المسبوقة كقوّةٍ إقليميّة، والتي تحققّت على يده. 



(١) ذكر المؤلف على سبيل المثال رئيس الجامعة محمّد الفاضل، وأضيف إليه الطبيب يوسف صايغ مدرّس الغدد الصمّ في كلية الطبّ جامعة دمشق وهناك غيرهم. 
(٢) تعرّض الكاتب بالتفصيل لجهود الأسد في التركيز على الهوية الإسلاميّة للعلويين وكيف استصدر فتوى من الإمام موسى الصدر عام ١٩٧٣ في جملةِ مساعيهِ. 
(٣) لاشكّ أنّ عدد الضحايا كان كبيراً ولا شكّ أنّ الآلاف من الأبرياء ماتو. مع ذلك هناك تفاوت كبير في التقديرات وتجدر هنا الإشارة أنّ معوز ادّعى أنّ ٨٠٠٠٠٠ سوري هاجروا بعد المذبحة. هذا الرقم غير معقول إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ عدد السكّان الإجمالي آنذاك كان حوالي عشرة ملايين. 
(٤) أذكر جيّداً وقتها مشاهدة لافتات في دمشق بعنوان "رفعت الفارس في قلب كل فارس".
(٥) أصبح أمين الجميّل رئيسَ لبنان بعد اغتيال أخيه الأصغر بشير في أيلول ١٩٨٢. 
(٦)  كان موقف القيادة الأردنيّة مشيناً عندما هاجمت إسرائيل لبنان، وأقرب إلى الشماتة بالسورييّن. سخر رئيس وزراء الأردنّ حينها مضر بدران بالجبهة وأطلق على أعضائِها تسمية دول "الجحود والتردّي". كان أكرم له ولسيّده لو اكتفيا بالصمت. 
(٧) لا أعلم إذا كان باسل الأسد مرشّحاً لخلافة أبيه عام ١٩٨٨، وبالطبع لم تكن رئاسة بشّار بالحسبان. 

Tuesday, May 24, 2016

الصراع على السلطة في سوريا ١٩٦١-١٩٧٨


الدكتور نيقولاوس ڤان دام ديپلوماسي وأكاديمي هولندي معروف، يتكلّم العربيّة بطلاقة، وخبير بشؤون الشرق الأدنى. شغل ڤان دام منصب سفير بلاده إلى العراق ومصر وأندونيسيا وغيرها، وله أكثر من كتابٍ عن سوريّا أقوم اليوم بمراجعة أحدها. يغطّي كتاب "الصراع على السلطة في سوريّا: الطائفيّة والإقليميّة والقبليّة في السياسات"، أو على الأقلّ طبعَتُهُ الأولى قيد الحديث، الفترة من ١٩٦١ إلى ١٩٧٨. صدرت طبعاتٌ إضافيّةٌ (١) مزيّدة ومنقّحة منذ ذلك الحين لم يُتَحْ لي الاطّلاع عليها، وبالتالي أقتصر على مراجعة الطبعة الأصليّة، وأملي أن بحالفني التوفيق في نقل أفكار المؤلّف كما هي مع الاحتفاظ بتعليقي للحواشي. 

يسلّط الكتاب الأضواء على سياسات سوريّا الداخليّة، وأثر الولاءات العشائريّة والطائفيّة والإقليميّة في هذه السياسات. لا تتعرّض الدراسة إلى تمرّد الإخوان المسلمين في أواخر السبعينات، ولا شكّ أن السبب متعلّق بتاريخ النشر.

يعزو ڤان دام زيادة نفوذ الأقليّات في الجيش إلى عزوف أغنياء التجّار عن تشجيع أولادهم على الانخراط في صفوفِهِ لعدة أسباب، امتزجت فيها الريبة مع الازدراء. على الرغم من ذلك، جرت جميع الانقلابات العسكريّة في مطلع استقلال البلاد بقياداتٍ  سنيّة، ضمناً زياد الحريري منفّذ انقلاب الثامن من آذار ١٩٦٣. الحريري لم يكن حتّى بعثيّاً وإن نجح البعث بالنتيجة في احتكار السلطة. 

حرص البعثيّون باستمرار على التوكيد على علمانيّة الحزب، وإدانة الخطاب الطائفي بشكلٍ قاطع؛ بالطبع لم يمنع هذا بعضَهم عن محاولة استغلال النزعات الطائفيّة الكامنة أبداً تحت الرماد لتحقيق مآربهم، بيد أنّ الطائفيّة العلنيّة كانت من المحرّمات وألحقت الضرر بمن جاهر بها، وعلى سبيل المثال طُرِدَ محمّد عمران من سوريّا بتهمة محاولة خلق كتلة طائفيّة (علوّية) في الجيش. شارك في إدانة عمران أمين الحافظ (سنّي)، صلاح جديد (علوي)، وحافظ الأسد (علوي). تجدر الإشارة هنا إلى نقطةٍ في غاية الأهميّة: استغلال الطائفيّة للحصول على السلطة لا يعني أن الطائفيّة هي سبب الصراع على هذه السلطة. 

مع مرور الوقت اتّسعت شقّة الخلاف بين أمين الحافظ وصلاح جديد. اتّهم الحافظ جديد بمحاولة بناء كتلة طائفيّة (علويّة) في الجيش. أحدث هذا الاتّهام ردّة فعل عكسية، ازداد نتيجةً لها التفاف الضبّاط العلوييّن حول صلاح جديد، بينما فشل الحافظ في بناء كتلة سنيّة، وخسر أيضاً ولاء الدروز وحتّى بعض ضبّاط السنّة (مصطفى طلاس وأحمد سويداني). حاول الحافظ أن يحتوي النفوذ المتزايد لصلاح جديد باستدعاء محمّد عمران وتنصيبه وزيراً للدفاع، بهدف شقّ صفوف العلوييّن. لم ينجح مسعى الحافظ الذي وصل إلى درجة الشكّ بكلّ ما هو علوي. أُطيحَ بأمين الحافظ في انقلاب الثالث والعشرين من شباط ١٩٦٦

شَهِدت المرحلة التالية تصفية النفوذ الدرزي في الجيش: حمد عبيد كان يطمح بمنصب وزير الدفاع الذي نالَهُ حافظ الأسد، وبالنتيجة عُزِل عبيد وأوقف.  لعب سليم حاطوم دوراً أساسياً في إنقلاب ٢٣ شباط ضد الحافظ بيد أنّه لم يقطف ثمار تعاونِهِ ولجأ بالتالي إلى محاولة تشكيل قاعدة درزيّة. أوفدت الحكومة نور الدين الأتاسي وصلاح جديد لتقصّي الوضع في السويداء، عندما اعتقل حاطوم المبعوثين في محاولة انقلاب في الثامن من أيلول ١٩٦٦. اتّصل حاطوم هاتفياً مع حافظ الأسد محاولاً فرضَ شروطه التي رفضها الأسد جملةً وتفصيلاً. أدرك حاطوم فشلَ مقامرته، ولجأ إلى الأردنّ حيث مارس بثّ الدعاية الطائفيّة من إذاعة عمّان.

الخلاصة حاولَ ضبّاطٌ، من كافّة الطوائف، بشكلٍ أو بآخر استغلال النعرات الطائفيّة: السنّي الحافظ، العلوي عمران، والدرزي حاطوم على سبيل المثال وليس الحصر. ما ينطبق على الطوائف ينطبق على الأقاليم (مثلاً السويداني كان أحد ضبّاط حوران المتنفّذين قبلَ عزلِهِ من الأركان عام ١٩٦٨).

ارتسمت خطوطٌ جديدة للصراع على السلطة في هذه المرحلة، بين تيّاريّ صلاح جديد وحافظ الأسد. كان أنصار جديد أكثر راديكاليّةً وطالبوا بإعطاء الأولويّة "للتحويل الاشتراكي" (٢)، بينما تمثّلت أولوية الأسد في الإعداد للحرب مع إسرائيل، و إن تطلّب هذا التعاون مع "أنظمةٍ رجعيّة". 

عمل حافظ الأسد على فصل الجهاز العسكري عن القيادة المدنيّة التي سيطر عليها صلاح جديد. انتهت "ازدواجيّة السلطة" مع تشرين ثاني عام ١٩٧٠ و"الحركة التصحيحيّة". أصبح الأسد رئِيساً  لسوريّا في شباط ١٩٧١ دون منافسةٍ جديّة، اللهم إلّا من ضمن الطائفة العلويّة وبقايا أنصار صلاح جديد الذين اعُتِقلَ بعضُهُم في حزيران ١٩٧١ وكانون أول ١٩٧٢ (٣). 

حاول الأسد جهدَه إنهاء عزلة سوريّا عربيّاً ودوليّاً وشارك مصر السادات في حرب تشرين أول ١٩٧٣ ضدّ إسرائيل. اختار الزعيم المصري لاحقاً سبيل الصلح المنفرد، ممّا أدّى إلى تبادل حملاتٍ إعلاميّة شديدة اللهجة بين القاهرة ودمشق (٤)



(١) الطبعة الثانية متوافرة إلكترونيّاً  ومعرّبة وتتابع الرواية حتّى منتصف التسعينات. 
(٢) لا زلت أذكر "الإشتراكيّة العلميّة" التي صدّعوا دماغَنَا بها في دروس التربية الوطنيّة.
(٣) اغتيل محمّد عمران في لبنان آذار ١٩٧٢. 
(٤) لم يتورّع السادات و إذاعة القاهرة عن اللجوء إلى اللغة الطائفيّة: "بعث دمشق العلوي"، "المؤامرة البعثيّة الحمراء" في لبنان. قال السادات في إحدى خطبه "النظام السوري علوي ثمّ بعثي ثمّ سوري". من سخرية الأقدار أنّ مصرع السادات عام ١٩٨١ جاء على يد نفس الإسلامييّن المتطرّفين الذين حاول "الرئِيس المؤمن" استمالتهم.

Wednesday, May 18, 2016

سوريّا من نهاية العهد العثماني إلى الحركة التصحيحيّة



الكتاب، لتوخّي الدقّة، أشمل من ذلك، بيد أنّ مائتيّ صفحة (حوالي أربع أخماسِهِ) من مَتْنِهِ تغطّي نصف القرن المنصرم بين الحرب العالميّة الأولى ونهاية الستّينات حصراً. المؤلِّفة، تابِثا پتران، صحفيّةٌ أمريكيّة من مواليد المكسيك أقامت في العالم العربي بدايةً من العام ١٩٥٧وكانت مقيمةً في بيروت عندما صدر كتابهُا، موضوع الحديث، عام ١٩٧٢. 

تبدأ پتران بتعريف سوريّا جغرافيّاً، مع التنويه أنّ اليونانييّن كانوا أوّل من استعمل هذه التسمية، أمّا العرب فقد أطلقوا على هذه الأقاليم اسم "بلاد الشام"، أي الشمال نسبةً لمكّة والحجاز. نأتي بعد ذلك إلى استعراض مكوّنات الشعب السوري الدينيّة والإثنيّة. تنتقل المؤلِّفة، بعد لمحةٍ سريعةٍ عن تاريخ سوريّا القديم، إلى القرن التاسع عشر عندما هبّت رياحُ الحداثة مع حملة ابراهيم باشا ابن محمّد علي، والتنظيمات العثمانيّة، وما تلاها من بدايات "الوعي السياسي" حسب تعبيرها.

تاريخ الحرب العالمية الأولى و "الثورة العربيّة الكبرى" ومراسلات حسين مكماهون معروف. تبنّت الكاتبة وجهة النظر الشرقيّة التقليدية المتمثّلة في "خيانة" الإنجليز للعرب (للتذكير وعود بريطانيا للعرب، كانت للهاشمييّن بالدرجة الأولى، وعلى درجةٍ كافيةٍ من الغموض بحيث يمكن تفسيرها بأكثر من طريقة، مع ذلك تكرّمت إنجلترا على فيصل بعرش العراق، وأقطعت شقيقَهُ الأكبر عبد الله إمارة شرق الأردنّ). جاء العهد الفيصلي (تشرين أول ١٩١٨ إلى تمّوز ١٩٢٠) بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ومن ثمّ  عهد الانتداب الفرنسي. تزامن هذا الأخير مع تزايد الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين. لا يمكن إعطاء نكبة ١٩٤٨ حقَّها في مراجعةٍ سريعة لكتابٍ مخصّص بالدرجة الأولى لسوريّا كما رسمت حدودَها فرنسا.

بدأت الانقلابات بعد سنواتٍ معدودة من الاستقلال، وتحديداً عام ١٩٤٩. هناك مؤلّفات أفضل لمعالجة الفترة بين ١٩٤٥-١٩٥٨، وحسبنا هنا الإشارة بشكلٍ سريع إلى عودة الحكم النيابي بعد سقوط الشيشكلي عام ١٩٥٤، ثمّ تصفية الحزب القومي السوري بعد مصرع المالكي عام ١٩٥٥، وصعود اليسار، وكيف تحوّل التعاون بين البعث والشيوعييّن إلى منافسةٍ أدّت مع عواملٍ إضافيّة إلى الوحدة السوريّة المصريّة عام ١٩٥٨. كرّست الوحدة صعود نجم عبد الحميد السرّاج، الساعد الأيمن لعبد الناصر في سوريّا، وحليفه في الصراع ضدّ الهاشمييّن وحلف بغداد.

تحدّثت الكاتبة مطوّلاً عن أخطاء الوحدة، واستغلال المصرييّن الاقتصادي لسوريّا، وتهميشهم للجيش السوري والضبّاط السوريين، وكيف بدأ الخلاف مبكّراً بين البعث وعبد الناصر، عندما رفض هذا الأخير اقتراح أن تحكم الجمهوريّة العربيّة المتّحدة لجنةٌ مكوّنةٌ من ستّة أشخاص، ثلاثةٌ منهم سوريّون: عفلق والبيطار والحوراني. من البدهي أن يتردّد عبد الناصر في قبول البعث كممثّل وحيد لجميع السورييّن ناهيك أن يتساوى عدد ممثليّ الإقليمين إذا أخذنا بعين الاعتبار وزن مصر الجغرافي والبشري مقارنةً مع الشام.

أتى الانفصال مع انقلاب عبد الكريم النحلاوي في أيلول عام ١٩٦١، وعاد اليمين إلى سدّة الحكم بمباركة ودعم ملك الأردن حسين والسعودييّن. أيّد أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار العهد الجديد، على الأقلّ في البداية، وكذلك فعلت "اللجنة العسكريّة" التي تشكّلت سرّاً في مصر عام ١٩٥٩، من مجموعةٍ من الضبّاط السورييّن (صلاح جديد، حافظ الأسد، محمّد عمران، حمد عبيد، سليم حاطوم، عبد الكريم الجندي، أحمد سويداني؛ هناك خلاف على عضويّتها الدقيقة). بالنتيجة اختلف البعث مع الحوراني وطُرِدَ هذا الأخير من الحزب في المؤتمر الخامس عام ١٩٦٢. كان عهد الانفصال حافلاً بالانقلابات وبعيداً عن الاستقرار، ممّا سهّل انقلاب الثامن من آذار ١٩٦٣، الذي ساهمت فيه ثلاثُ مجموعاتٍ من الضبّاط: بعثيّون وناصريّون وقوميّون عرب. انتمى منفّذ الانقلاب زياد الحريري (صهر الحوراني) إلى الفئة الأخيرة. شاب الغموض هوية الانقلاب في البداية، ممّا ساعد على نجاحه، إذ اعتقد زيدٌ أنّ عمراً يعمل لصالِحِهِ والعكس بالعكس. كان ردّ فعل السورييّن عموماً أنّه انقلاب كغيرِهِ وأنّ دوالَ دولتِهِ مسألةُ وقتٍ ليس إلّا.

تلى أحداث ٨ آذار إعلان الأحكام العرفيّة. تجدر هنا الإشارة أنّ قيادة البعث (عفلق والبيطار) لم تشارك في الانقلاب لا من قريب ولا من بعيد، بيد أنّ الضبّاط في اللجنة العسكريّة كانوا بحاجةٍ إلى الجهاز التنظيمي للحزب ولو كواجهة في البداية، وهكذا قاموا باستدعاء القيادة السياسيّة، ومن بعدها تمّ تطهير الجيش من الناصرييّن وجماعة زياد الحريري بالتدريج. بزغ نجم أمين الحافظ في الحزب الذي ازدادت قوّتُهُ وثقتُهُ، وإن احتاج لاستعمال العنف بين الفينة و الفينة، على سبيل المثال عندما تمرّد الناصريّون وعلى رأسِهم جاسم علوان صيف ١٩٦٣، وأثناء عصيان حماة ١٩٦٤. تلى احتكار البعث للسلطة نزاعٌ  داخل الحزب بين اليمين أو "القومييّن" بقيادة أمين الحافظ ،واليسار أو "القطرييّن" أو "البعث الجديد" بقيادة صلاح جديد. انتهى الأمر بانتصار جديد في انقلاب دموي في الثالث والعشرين من شباط ١٩٦٦ انتهى معه دور القيادات المدنيّة التقليديّة للبعث في سوريّا إلى غير رجعة.

شهد منتصف الستّينات صراعاً بين البعث وعبد الناصر على قيادة اليسار و"القوى التقدميّة" في العالم العربي، وحفل بمزايدات البعث على الزعيم المصري في قضيّة تحويل مياه نهر الأردن و"تحرير فلسطين". طالب ممثلو سوريّا في مؤتمر القاهرة (كانون ثاني ١٩٦٤)، بدعمٍ من الجزائر، "بحرب تحرير شعبيّة" على غرار النموذج الجزائري لمواجهة الصهاينة. لا داعي للدخول في التفاصيل التي أدّت إلى كارثة ١٩٦٧ وإن كان من المفيد هنا التعرّض إلى أزمةٍ أطلق شرارتها بعض مفكّري اليسار (الذي كان في أوج قوّتِهِ في هذه المرحلة التي أذكر تماماً شعاراتها الطنّانة عن "الإشتراكيّة العلميّة" و"حرب التحرير الشعبيّة")، عندما حاولو جسّ نبض الشارع السوري في مقالٍ نَشَرَتَهُ مجلّة "جيش الشعب" في الخامس والعشرين من نيسان من ذلك العام؛ ورد، من جملة ما ورد في المقال، دعوةٌ إلى التخلّص من تقاليد الماضي ووضع "الدمى المحنّطة" أي "الله والدين والإقطاع والرأسمالية والاستعمار" في "متحف التاريخ". تلت نشرَ المقال موجةٌ من الإضرابات والاصطدامات مع عناصر الأمن، وأدرك القيّمون على مصائر البلاد أنّ مرؤوسيهِم تجاوزوا الخطوط الحمراء. بالنتيجة تمّ توقيف الكاتب والمحرّر والحكم عليهما بالأشغال الشاقّة المؤبّدة وإن جرى إطلاق سراحِهِما "بهدوء" فيما بعد.

أجرى البعث عدّة "إصلاحات" بعد الهزيمة، منها تأميم المدارس الخاصّة في أيلول ١٩٦٧، وأدّت ممارساتُهُ الاقتصادية، في جملة ما أدّت إليه، إلى هروب رؤوس الأموال من سوريّا. 

لا شكّ أنّ الصراع على السلطة بين حافظ الأسد وصلاح جديد كان أهمّ تطوّرات الأعوام ١٩٦٨-١٩٧٠. سعى الأسد إلى تعزيزِ نفوذِهِ في الجيش، بينما ركّز جديد على الحزب. نفّذَ الأسد انقلابه الأول (أو "حركته التصحيحيّة الأولى" إذا شئنا) في الخامس والعشرين من شباط ١٩٦٩، عندما احتلّت دباباتُهُ مواقعاً مفتاحيّةً في دمشق، واستولى أنصارُهُ على مبنى الإذاعة، وطردوا رؤساء تحرير البعث والثورة، وأحلّوا محلّهم جماعتهم. ردّت القيادة السياسيّة بإدانة تمرّد الجيش ضدّ الحزب، ودعت إلى مظاهراتٍ واضرابات. لم يكن الأسد في هذه المرحلة يملك القّوة الكافية للسيطرة على الحكومة، وبالتالي كان لا بدّ له من الوصول إلى اتّفاق مع صلاح جديد ولو إلى حين. بيد أنّ جديد خرج من الأزمة أضعف منه عندما دخل إليها، واضطّر أنصارُهُ إلى نشرِ مقالاتِهم في جريدة "الراية" من لبنان، بعد أن أغلقت الصحافة المحليّة أبوابَها في وجوههم.

استمرّت ازدواجيّة السلطة حتّى خريف ١٩٧٠، عندما قام الأسد بنقل ما تبقّى من أنصار صلاح جديد في الجيش، وردّ مؤيّدو هذا الأخير في المؤتمر القومي الاستثـنائي العاشر (الثلاثون من تشرين أول وحتّى الثاني عشر من تشرين ثاني) بطرد الأسد وحليفه مصطفى طلاس من مناصبهما في الحكومة والجيش. كانت ردة فعل الأسد فوريّةً واستولت وحدات الجيش على مكاتب الحزب والمنظمات الشعبية، وأودعت عدداً من القيادات السياسيّة والضبّاط الموالين لجديد السجن دون حاجةٍ إلى سفك الدماء.


Tabitha Petran, Syria, Nations of The Modern World. Praeger Publishers, New York 1972. 



Saturday, May 14, 2016

السلطويّة في سوريّا من الاستقلال حتّى نهاية الستّينات


المؤلّف ستيڤن هايدمان أمريكي من مواليد ١٩٥٧، والكتاب من منشورات جامعة كورنيل عام ١٩٩٩. هايدمان أخصّائي بالعلوم السياسيّة والاقتصاد السياسي للشرق الأدنى، وشغل عدداً من المناصب الأكاديميّة غبر السنوات. عن موقِفِهِ من المأساة السورية التي بدأت عام ٢٠١١، تكفي الإشارة إلى مقالٍ نَشَرَه في الواشنجتون پوست عام ٢٠١٦، أفتى فيه أنّ "الدولة الإسلامية - داعش  - قامت بمساعدةٍ من النظام السوري، بامتصاص مساحاتٍ واسعة من سوريّا". حلّل الكاتب في نفس المقال أسبابَ ما وصَفَهُ بعزوف وتردّد الرئيس أوباما عن التدخّل في سوريّا. يبقى هايدمان مع ذلك مسموع الكلمة عبر ما يسمّى "معهد الولايات المتحدة للسلام" والإعلام الأمريكي عموماً، وبالتالي ليس لنا تجاهل ما يقولَهُ بحجّة أننّا لا نوافق عليه. في كلّ الأحوال الكتاب، موضوع حديث اليوم، يتعرّض لأحداثٍ دخلت في التاريخ وماتَ أبطالُها وأشرارُها منذ سنوات. 

حاول الكاتب عبر ٢٢٠ صفحة، بلغةٍ مدرسيّة أقرب إلى الجفاف، أن يحلّل أسباب ديمومة حكم البعث في سوريّا، والمرونة التي أظهَرَها في مواجهة الكثير من التحدّيات الداخليّة والخارجيّة والتغلّب عليها، أو على الأقل احتواءها. تبدأ القصّة مع الاستقلال، خاتمة الصراع ضدّ الفرنسيين، وبداية النضال من أجل تحديد هويّة الدولة الفتيّة، نهجها الاقتصادي، وأولي الأمر فيها. بدا مستقبل سوريّا مشرقاً في مطلع الاستقلال وحقّقت الصناعة نموّاً سريعاً وإن اعتمدت البلاد بالدرجة الأولى على الزراعة التي تطوّرت وتمكننت بخطىً حثيثةٍ في عقد الخمسينات.

أدّت الظروف المتغيّرة إلى ظهورِ نخبةٍ جديدة من رجال الأعمال والصناعييّن لتنافس مالكي الأرض؛ لنا هنا أن نتوقّع ردّةَ فعلٍ منطقيّة تمثّلت في دعاة الإصلاح وصعود اليسار للمطالبة بحقوق العمّال والفلّاحين: البعث وجماعة أكرم الحوراني والشيوعييّن. تمخّضت منافسة اليسارييّن بعضهم البعض الآخر عن ظهور اتّجاهين: الشيوعييّن مع حليفهم المليونير خالد العظم من جهة، والبعثييّن من جهةٍ ثانية. استطاع البعثيوّن بالاتّفاق مع بعض ضباط الجيش المتنفّذين أن يدفعوا سوريّا نحو الوحدة كوسيلةٍ لكبح جماح الشيوعييّن، وأملاً بمشاركة عبد الناصر في الحكم. 

ركّزت حكومة الوحدة (١٩٥٨-١٩٦١) على دور الدولة في بناء المؤسسات الذي بدأ في عهد الشيشكلي، وعمِلَت على تعزيز شعبويّة الحكم السلطوي من خلال العمّال والفلّاحين، وبذلت جهدَها في التصنيع، وأدخلت الإصلاح الزراعي والخطط الخمسيّة. أثارت هذه الخطوات قلقَ رجال الأعمال، بيد أنّ مالكي الأرض كانوا أكبر المتضرّرين مقارنةً مع شكاوى الرأسمالييّن المبالَغ فيها. لا يوجد - في رأي هايدمان - دليل على تضرّر اقتصاد سوريّا إجمالاً من الوحدة، بل على العكس، أشارت الأرقام إلى زيادة الصادرات السوريّة لمصر نسبة للواردات. هذا بالطبع لا ينفي الإجحاف بحقّ البعض وأنّ السياسات المُتّبَعة لم تكن دوماً حكيمةً أو معصومةً عن الخطأ. 

أتى الانفصال قبيل نهاية أيلول ١٩٦١، و معه محاولة رجال الأعمال ومالكي الأراضي والنخبة القديمة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، حتّى لو تطلّب تحقيق ذلك استعمال سلطويّة الدولة عوضاً عن محاولة التفاهم مع الوجوه الجديدة ومشاركة الإدارة. دّل موقِفُهُم هذا أنّ أولوّياتِهِم لم تكن العودة إلى الديمقراطيّة المزعومة، بقدر ما كانت التخلّص من ميراث الوحدة الاقتصادي والاجتماعي. تلخّصت جهودهم بالنتيجة في اعتماد "الطريق السلطوي إلى الديمقراطيّة" باستعمال نفس المؤسّسات السلطويّة التي أصبحت راسخةً مع نهاية عهد الوحدة. كان عهد الانفصال بعيداً عن الاستقرار وحفل بالانقلابات و التغييرات الوزاريّة. 

شاركت عناصر متعددة في انقلاب ١٩٦٣ الذي أدّى إلى استلام البعث زمام الحكم بعد فترةٍ وجيزة. لم يتردد البعثيّون في اللجوء للقوّة في سبيل تكريس حكمٍ سلطوي يتّسم بالديمومة، واستعملوا الصراع الطبقي، وعملوا على تطهير الجهاز البيروقراطي من ذوي الولاء المشبوه. نجح النظام الجديد في بناء مؤسّسات داعمة للحكم، وأعاد برمجة الاقتصاد على الرغم من إضرابات منتصف الستينات التي قَمَعَها بيدٍ من حديد، وخلق المنظّمات الشعبيّة العقائديّة، وإحتكر أو حاول احتكار تجارة العملة. قلّل هايدمان من أهميّة الفروق بين قيادات البعث القديمة والجديدة، وتجاوز عن الصراع داخل الحزب. يبقى الموضوع الأساسي من وجهةِ نَظَرِهِ ما فعله البعث للاحتفاظ بالسلطة بغضّ النظر عن الأشخاص، وهنا يكمن سرُّ نجاحِهِ ودوامِ نفوذِهِ وسيطَرَتِهِ. 

شهدت الأعوام ١٩٦٨-١٩٧٠ نزاعاً على السلطة بين صلاح جديد وحافظ الأسد من وراء الكواليس، وعندما وصل هذا الأخير إلى سدّة الحكم، كان باستطاعته الاعتماد على جهازٍ سلطوي ومؤسّساتٍ مستقرّة تطوّرت على مدى عشرات السنين، قام بدوره بتعزيزها وتقويتها مما يفسّر قِدْرَتَهُ على البقاء على رأس الدولة حتّى نهاية القرن العشرين. 








Saturday, May 7, 2016

ولاءات العهد الفيصلي الموزّعة




يعود الفضل في إغناء المكتبة العربيّة بترجمة دراسة الدكتور Gelvin عن ولاءات السورييّن الموزّعة في العهد الفيصلي إلى صديقي العزيز العالم عمرو الملّاح. صدرت النسخة المعرّبة عام  ٢٠٢١، أمّا الأصل فقد رأى النور عام ١٩٩٨. المؤلّف أكاديمي أمريكي مختصّ بالشرق الأدنى من مواليد ١٩٥١، وأستاذ في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلس منذ عام ١٩٩٥. ليس هدف الكتاب تأريخ أحداث العهد الفيصلي، بقدر ما هو محاولة لفحص المفاهيم المختلفة والمتنافِسة للقوميّة والأمّة وتطوّر السياسات الشعبيّة والجماهيريّة في سوريّا مطلع القرن العشرين. قرأتُ الأصل الإنجليزي قبل ربع القرن ووجدتُهُ مثيراً للاهتمام من أكثر من ناحية. أقتصر هنا على استعراضٍ سريع له، وأحيل من يرغب بالتوسّع من قرّاء العربيّة إلى ترجمة الأستاذ عمرو المهنيّة وتحقيقه، وحرصهِ الدؤوب على تقديم أعماله بلغةٍ فصيحةٍ سهلة المنال.  

رَبِيَ معظمُنا على مفهوم الهويّة العربيّة التي جرى الترويج لها خلال معظم القرن العشرين، وقبل ظهور حزب البعث بكثير، من قِبَل المفكّرين المحلييّن والغربييّن، كمسألةٍ بديهيّة وموضوعٍ تمّ البتّ فيهِ "كممثّل شرعي ووحيد" للشعب السوري. رفض الكاتب هذا التعميم الذي يعزو أصلَهُ إلى نخبةٍ من المثقّفين المثالييّن، وتبنّي مطارحاتهم لاحقاً بمفعول رجعي، مع إهمال وجهات النظر المخالفة أو على الأقل تهميشها. يستشهد جلڤن في هذا الصدد بكتاب جورج أنطونيوس الشهير "يقظة العرب" الذي صدر بالإنجليزيّة عام ١٩٣٨، وكان له الباع الأطول في قولبة هذه الأسطورة.

كانت "السفر برلك"، أو الحرب العالميّة الأولى، أتعس عهد في سوريّا خلال القرن العشرين (لربما كان "الربيع العربي" حالياً تكراراً لها بعد قرن من الزمن). رزحت البلاد تحت وطأة العمليّات العسكريّة في الجنوب، وسنواتٍ عجاف جمعت بين القحط وأرجال الجراد والحصار البحري الذي فرضه الحلفاء - على غرار المقاطعة الاقتصادية حاليّاً - والتضخّم المالي ولجوء أعداد كبيرة من الأرمن بعد مذابح ١٩١٥ وغيرهم من النازحين..  لتجعل حياةَ السورييّن جحيماً لا يطاق. لا يعني كلّ هذا بالضرورة أنّ "عرب سوريّا" كانوا في صدد الثورة على "المستعمر التركي"،  وبالفعل استمرّ كثيرون منهم بالتعاون مع السلطات العثمانيّة واستمرّ أعيان دمشق في دعوة "جمال باشا السفّاح" إلى مآدبهم، قبل وبعد شنق "الوطنييّن" علناً في ساحة المرجة - تاجرت الحكومة الفيصليّة بمن عُرِفو لاحقاً بشهداء أيّار إلى أقصى استطاعتها وتبنّت العهود اللّاحقة هذه الممارسة. مدح الشاعر خير الدين الزركلي - على سبيل المثال - جمال باشا في أكثر من قصيدة.

دخل الأمير فيصل دمشق بدعم البريطانييّن في تشرين أول ١٩١٨، وحاول وأنصارُهُ جهدَهم خلقَ هويّةٍ عربيّة في سوريّا، يُقْنِعون بها - وبالتالي بشرعيّتِهم - ليس فقط السكّان المحلييّن، وإنّما أيضاً سوريّي المهجر في مصر وغيرها، وخصوصاً القوى العظمى الغربيّة، صاحبة "الحلّ والربط". فيما يلي بعض الأمثلة على ما فعلوه في هذا الصدد:

١. شراء ولاء السكّان وإسكات الخصوم السياسييّن بالأموال البريطانيّة، على مبدأ "طعمي التمّ بتستحي العين"، ودفع "خوّة" للقبائل.
٢. تنظيم المظاهرات "المؤيّدة" و"العفويّة"، والاحتفالات والعطل الرسميّة، ومشاهد المسرح وبذل المال لدعم الجرائد التي لا تكفي عائدات توزيعِها المحدود لسدّ نفقات طباعَتِها. يشير الكاتب هنا أنّ بعض الصحفيين كحبيب كحّالة ومحمّد كرد علي كانوا يقبضون من الحكومة الفيصليّة والفرنسييّن في نفس الوقت.
٣. رفع شعار "الدين لله والوطن للجميع"، في محاولةٍ لجمع الطوائف تحت رايةٍ موحّدة، وإن قام الفيصليون أيضاً بالدعوة إلى الجهاد تحت راية الإسلام عندما اعتقدوا أنّها أنسب لمصالحهم.
٤. اختيار جماعات معيّنة وأشخاص معيّنين للقاء مبعوثي لجنة كينج كرين عام ١٩١٩، لإعطاء الغرب انطباعاً عن وجود هويّة عربيّة لدى أكثريّة السكّان، لها مطالب محددة ومُتّفَق عليها، تتمثّل في استقلال سوريّا ووحدتها إلى آخره.

ما كان لمملكة فيصل في نهاية المطاف أن تستمرّ دون استمرار الدعم البريطاني المالي والسياسي والعسكري، وكما هو معروف كان التفاهم مع فرنسا أهمّ بكثير لإنجلترا من إرضاء فيصل وأبيه الشريف حسين والأسرة الهاشميّة التي تجاوزت طموحاتُها حدّ المعقول، وظنّت أو ادّعت أنّ إسهامَها المتواضع في حرب مات فيها ملايينٌ من شباب أوروپا، يخوّلها الحصول على إمبراطوريّةٍ دفع الغربُ ثَمَنَ سَلْخِها عن العثمانييّن أموالاً طائلةً وبحاراً من الدماء.

دقّت ساعة العهد الفيصلي في سوريّا مع قرار البريطانييّن بتخفيض، ثمّ تجميد دعمهم المالي للحكومة العربيّة التي أصبحت عاجزةً عن دفع رواتب موظّفيها وشراء تعاون القبائل، ممّا أدّى إلى فوضى أمنيّة في الريف والمدن، وخلق لجان شعبيّة، واللجوء إلى القبضايات لحماية الأحياء. ازداد الضغط على حكومة فيصل لمقاومة المشروع الفرنسي، وبلغ ذروته في إعلان استقلال البلاد في المؤتمر السوري الذي عُقِدَ في الثامن من آذار ١٩٢٠، والذي رفضه الحلفاء في سان ريمو. تلى هذه الأحداث إنذار غورو الشهير في الرابع عشر من تمّوز. 

هبّت في دمشق مظاهراتٌ ضدّ حكومة فيصل في ٢٠ تمّوز، وهاجمت الحشود مقرّ الملك والقلعة ومات أكثر من ١٠٠من الأهالي. فشلت قوّات الحكومة في السيطرة على الشارع، واندلعت مظاهراتٌ مماثلة في حلب في اليوم التالي وبالنتيجة قام بعض الزعماء الشعبييّن بجمع المتطوعيّن الذين زحفوا إلى خان ميسلون تحت قيادة يوسف العظمة بينما فرّ فيصل باحثاً عن مملكة جديدة في مكان آخر. 

أتمّ الفرنسيّون بعد دخولهم دمشق ما بدأه فيصل، أي القضاء على اللجان الشعبيّة، وبدأ  الانتداب الفرنسي بحلوهِ ومرّهِ.

حاول الهاشميّون فَرْضَ رؤياهم "من الأعلى"، بإدخال قيم غربية "كالتقدّم" و"الحضارة" في إطار جهودهم لإبهار أوروپا وأمريكا، وبالتالي إقناعهما بتأييد الدولة العربيّة الفتيّة. لم تكن هذه الرؤيا مقبولةً لكثيرٍ من السورييّن الذين كانوا ينظرون إلى الغرب ومشاريعه بعين الشكّ والريبة، ولا يثقون بالحجازيينّ، ولا يؤمنون بمشروع فيصل. لا يوجد اتّفاق على تطابق مفهوم "الدولة" مع مفهوم "الأمّة" بين الطرفين، وبالتالي لا يوجد - حسب المؤلِّف - دليلٌ مقنع على تعريفٍ وحيد "للقوميّة العربيّة"، وما هي بالنتيجة إلّا إحدى الهويّات التي تداولها السوريّون. 



James L. Gelvin. Divided loyalties: nationalism and mass politics in Syria at the close of Empire. University of California Press 1998. 

Wednesday, May 4, 2016

سوريّا تحت البعث من زياد الحريري إلى سقوط أمين الحافظ



المؤلّف إيتامار رابينوڤيتش، إسرائيلي من مواليد القدس عام ١٩٤٢، والكتاب من مطبوعات الجامعات الإسرائيليّة عام ١٩٧٢. تخرّج رابينوڤيتش من الجامعة العبريّة عام ١٩٦٤، وحاز على ماجستير من جامعة تلّ أبيب عام ١٩٦٩، ثمّ دكتوراة من جامعة كاليفورنيا لوس أنجلس في الولايات المتّحدة عام ١٩٧١. خدم الباحث في الجيش الإسرائيلي ١٩٦٣-١٩٦٦، وأصبح أستاذاً في جامعة تلّ أبيب اعتباراً من ١٩٧١. شغل منصِب سفير إسرائيل في الولايات المتّحدة في تسعينات القرن الماضي وترأّس الوفد الإسرائيلي في المفاوضات مع سوريّا ١٩٩٣-١٩٩٦. الدكتور رابينوڤيتش ذو إلمام أكثر من كافٍ باللغة العربيّة ممّا أتاح له الاطّلاع على الكثير من المراجع المحليّة، وإن لم يستطع مقابلة أو محادثة سياسيّي العرب في الفترة التي يغطّيها الكتاب لأسباب واضحة.


يبدأ الكتاب بمقدّمةٍ عن تاريخ سوريّا السياسي في مطلع عهد الاستقلال، أي بين الأعوام ١٩٤٥-١٩٥٤، ينتقل بعدها إلى التعريف بحزب البعث منذ تأسيسه عام ١٩٤٧ على يد ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار - كلاهما دمشقيّان. لا يفوت المؤلِف طبعاً ذكر دور حركة البعث العربي العائدة إلى العام ١٩٤٠ وزكي الأرسوزي، ومن ثمّ اندماج البعث مع حزب أكرم الحوراني العربي الإشتراكي، وولادة حزب البعث العربي الإشتراكي. نأتي عد ذلك إلى استعراض الأحداث التي قادت إلى الوحدة في شباط ١٩٥٨، ودور الجيش والبعث فيها، وخيبة أمل البعثييّن عندما اكتشفوا لاحقاً عزوفَ عبد الناصر عن مشاركتهم جديّاً بالحكم. الخطوة التالية كانت تشكيل اللجنة العسكريّة في مصر بمبادرة من محمّد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وغيرهم. انتهت تجربة الوحدة مع انقلاب عبد الكريم النحلاوي في الثامن والعشرين من أيلول عام ١٩٦١، وانتهى عهد الإنفصال بدوره مع انقلاب - أو ثورة إذا شئنا - الثامن من آذار ١٩٦٣. 


بغضّ النظر عمّا يعتقده الكثيرون، لم يكن انقلاب ٨ آذار بعثيّاً صرفاً، وإّنما شارك فيه الناصريّون والمستقلّون ومنهم منفّذ العمليّة زياد الحريري، الذي هُمِّشَ لاحقاً. بالنتيجة برز البعث إلى المقدمة وتمكّن من التخلّص من حلفاءِهِ بالتدريج. حاول البعض إعادة التقارب مع مصر، الذي يفترض أن يأتي نتيجةً طبيعيّةً لإنهاء ما سُمّي "بعهد الانفصال"، وفشلت هذه المحاولات فشلاً ذريعاً مع السقوط المؤقّت لبعث العراق، الذي تولّى مقاليد الحكم في الثامن من شباط ١٩٦٣، ونُحّي عن السلطة في ١٨ تشرين الثاني لنفس العام. كان هناك أيضاً مشروع وحدة أو اتّحاد بين مصر والعراق وسوريّا، بيد أنّ مآثِرَهُ اقتصرت على اعتماد علم الوحدة في سوريا و العراق في الأوّل من أيّار ١٩٦٣، ولكن بثلاث نجوم خضر عوضاً عن نجمتيّ الوحدة السوريّة المصريّة.


بمجرّد استتباب الأمر للبعث في سوريّا، بدأ النزاع بين الجناح "اليميني" للحزب بزعامة عفلق والبيطار وأمين الحافظ و"القيادة القوميّة" مع العديد من المدنييّن من جهة، والجناح اليساري أو الراديكالي الممَثَّل في "القيادة القطرية" التي طغى عليها الجيش عموماً واللجنة العسكريّة خصوصاً. أدار صلاح جديد سياسات اليسارييّن من وراء الكواليس وكان قليل الاهتمام بالمظاهر وشديد التركيز على نشر نفوذه في الجيش عن طريق تعيين محاسيبه وأنصاره في مواقعٍ مفتاحيّة. تحوّلت جرائد الحزب وقتها إلى منابر للصراع على السلطة على الأقل برصف الكلام، إذ نطقت جريدة "البعث" باسم "القومييّن" بينما دافعت "الثورة" عن وجهة نظر "القطرييّن". أصبح وضع عفلق والبيطار حرجاً وهناك ما يشير إلى رغبتهما بالحدّ من تدخّل الجيش بالسياسة، بيد أنّ معضلتهما تمثّلت بكل بساطة بأنّ الجيش شرٌّ لا بدّ منه، وبالفعل ما كان للبعث أن يستلم السلطة أصلاً دون العسكرييّن. توهّم مؤسسّا الحزب لوهلةٍ بإمكانيّة استعمال الجيش أداةً لكبح جماح الراديكالييّن، ولكن دعم الحافظ في الجيش كان أقلّ بكثير ممّا يلزم لاحتواء صلاح جديد ومؤيّديه. بالنتيجة وصل عفلق إلى مرحلة القرف واستقال من منصبه كأمين عامّ للحزب في ربيع عام ١٩٦٥ ليحلّ محلَّهُ الدكتور منيف الرزّاز


تزامنت هذه الأحداث على الساحة السوريّة بالمنافسة البعثيّة الناصريّة على الصعيد العربي، وتكرّرت محاولات البعث لإحراج عبد الناصر والتشديد على عدم جديّتِهِ في محاربة الرجعيّة العربيّة وإسرائيل. هناك على سبيل المثال مؤتمر القمّة العربيّة في القاهرة في كانون الثاني ١٩٦٤، عندما ترأّس أمين الحافظ الوفد السوري بهدف المزايدة في موضوع محاولة إسرائيل تحويل مياه نهر الأردنّ. زايد البعثيّون أيضاً على الزعيم المصري عندما حاول إيجاد مخرج من أزمة اليمن، وأيضاَ في قمّة الدار البيضاء أيلول ١٩٦٥ عندما طالب السوريّون بوضع خطّة لتحرير فلسطين. المضحك المبكي أن مزايدات الحافظ على مصر لم تنفعه كثيراً إذ أدان الراديكاليّون في سوريّا بقيادة صلاح جديد حوارَهُ مع "الرجعيّة" العربيّة واستعداده للتعايش معها، و زايدو عليه كما زايد على عبد الناصر وأكثر. 


استطاع جديد بالنتيجة استمالة من تبقّى في الجيش من "أهل الحل و الربط"، ومنهم حمد عبيد وسليم حاطوم ومصطفى طلاس، ونجح في إسقاط الحافظ في ٢٣ شباط ١٩٦٦. كرّسَ هذا الانقلاب انتصار العسكرييّن على المدنييّن وأقصى مدّ اليسار السوري في أواخر الستّينات. مع كلّ هذه الصراعات على السلطة، وما رافقها من تطهير وراء تطهير في الجهاز الحاكم عموماً والجيش خصوصاً، أو لربمّا كنتيجةٍ لها،  تمكّن البعث من الاحتفاظ بالسلطة رغم هزيمة ١٩٦٧. علّ السبب يعود إلى خلو الساحة من الأقران والمزاحمين في هذه المرحلة. يختم الكاتب سرده باستعراضٍ سريع للمنافسة بين صلاح جديد وحافظ الأسد والتي انتهت كما هو معروف في تشرين ثاني ١٩٧٠ بانتصار هذا الأخير



Itamar Rabinovich. Syria Under the Ba'ath 1963-1966: The Army Party Symbiosis. Israel Universities Press, 1972.