Wednesday, August 15, 2018

ديموغرافيا لواء اسكندرون في عهد الانتداب الفرنسي


من المتعارف عليه أنّ السياسييّن بشكل عامّ يكذبون كلّما حرّكوا شفاههم ولكن فنّ الديبلوماسيّة الحقيقي يكمن في الصدق دون قول الحقيقة ولهذا عدّة أساليب معروفة للسياسي المحنّك منها ذكر أنصاف الحقائق ومنها تحويل المقابلة في اتّجاه آخر ومحاولة النيل من مصداقيّة الخصم دون الإجابة على السؤال ورفع الصوت والخبط بقبضة اليد على المائدة وهلمّجرّا. 

مفهوم القوميّات حديث نسبيّاً وما يهمّنا هنا تحديداً "القوميّتان" العربيّة والتركيّة. لا داعي للدخول في العربيّة كنهضة ثقافيّة في أواخر القرن التاسع عشر (ناصيف اليازجي وبطرس البستاني مثلاً) ولا بالطورانيّة لدى الأتراك فأثر هذه الحركات في وقتها كان محدوداً للغاية وأعطيت أهميّة تفوق حجمها بمفعول رجعي بعد سقوط الإميراطوريّة العثمانيّة. يمكن القول أنّه حتّى عام ١٩١٤ كان مواطنو أو رعايا هذه الإمبراطوريّة يتبعون في غالبيّتهم العظمى آل عثمان أو ممثّليّ هذه العائلة عربيّة كانت لغتهم أم تركيّة أم كرديّة أم أرمنيّة في دولة كانت لا تزال مترامية الأطراف حتّى في أواخر عهدها (الشام والعراق وآسيا الصغرى والحجاز وحتّى مصر كانت لا تزال من الناحية النظريّة إحدى مكوّنات هذه الإمبراطوريّة).  

تقاسمت بريطانيا العظمى وفرنسا الشرق الأدنى بعد نهاية الحرب وقامتا برسم حدوده السياسيّة التي أصبحت أمراً واقعاً واكتسبت هذه الحدود (بما فيها لواء اسكندرون أو محافظة هاتاي التركيّة إذا شئنا) ديمومةً تجاوزت سقوط الإمبراطوريّات الأوروبيّة مع نهاية الحرب العالميّة الثانية . قصّة المناورات السياسيّة التي حدت فرنسا للتنازل عن أرض في عهدتها لتركيّا الكماليّة أطول من أن يغطّيها مقال قصير ولا داعي حتّى للدخول في شرعيتها كون الشرعيّة وقتها كانت عصبة الأمم وانتداب فرنسا على سوريا كان بتفويض من عصبة الأمم وبالتالي فكافّة الإجراءات التي اتّخذتها القوّة المنتدبة كانت قانونيّة ١٠٠٪  عادلة كانت أم باغية. 

فيما يلي توزيع سكّان لواء اسكندرون عام ١٩٢٤ ويمكن لمن يرغب في المزيد من التفاصيل النقر هنا:

أتراك حوالي ٣٧٪ (المقصود أتراك سنّة)
علويّون حوالي ٢٨٪
شيعة حوالي ٢١٪
عرب حوالي ١١٪ (المقصود عرب سنّة)
خليط حوالي ٢٪



فلنفترض أنّ هذه الأرقام دقيقة (لا يوجد سبب مقنع للتشكيك بدقّتها) من الواضح أنّ من أجرى هذا الإحصاء خلط "السماوات بالأباوات" عمداً وعن سبق الإصرار. لدينا هنا فئات لغويّة (عرب وأتراك) مخلوطة مع فئات دينيّة ومذهبيّة (علويّون وشيعة) لغة أغلبيّتهم الساحقة لا بدّ وأن تكون عربيّة والهدف بكل بساطة "أن تضيع الطاسة" وأن تستطيع الديبلوماسيّة الفرنسيّة عند اللزوم استناداً إلى "وثائق وأرقام" من هذا النوع تبرير إعطاء اللواء لتركيّا على اعتبار أنّ الأتراك هم الأكثر عدداً إن لم يكن من الناحية المطلقة فعلى الأقلّ نسبيّاً. بالطبع "الإحصاء" فيه ما يكفي من المرونة للحفاط على اللواء ضمن الحدود السوريّة إذا شائت فرنسا أن تقلب لتركيّا ظهر المجنّ. 

هذه الطرق "الخلّاقة" في اختراع القوميّات ورسم الحدود لم تكن بالطبع مقصورة على لواء اسكندرون ومن المعروف أنّ تركيّا أتاتورك "العلمانيّة" قامت (انقر هنا) بطرد جميع مسيحيّي آسيا الصغرى عمليّاً بحجّة أنّهم "يونان" وردّت اليونان "الجميل" بطرد جميع مسلميها الذين سمّتهم "أتراكاً" رغم أنّ عمر الوجود المسيحي في آسيا الصغرى وقتها كان قد تجاوز ١٥٠٠ عاماً والوجود الإسلامي في اليونان مئات الأعوام. 

قامت إسرائيل بشكل أو بآخر باستعمال نفس الأساليب وفي هذا الكليب نرى السيّدة غولدا مائير تؤكّد أنّ فلسطين الانتداب البريطاني لم يكن فيها فلسطينيّون وإنّما "عرب ويهود". لا داعي للدخول في تفاصيل مزعجة وتسمية الأمور بمسمّياتها أي  "مسلمون ومسيحيّون ويهود" أو "أهالي المنطقة الأصلييّن في مقابل مهاجرين أوروبييّن" فرضهم بحدّ السيف انتداب بريطانيا المستند (كنظيره الفرنسي في سوريا) على شرعيّة عصبة الأمم علاوة على تصريح بلفور.  الاعتماد هنا أنّ المستمعين في الغرب (وهم المقصودون في خطاب السيّدة مائير) متعاطفون مع القضيّة الصهيونيّة أو في أسوأ الأحوال غير معنييّن بالموضوع ولا يعرفون عنه إلّا ما ينقله لهم إعلام مسيّس. 

لا يحتاج القوي لتبرير تصرّفاته التي يستطيع فرضها بجيوشه وأساطيله كما فعل المنتصرون منذ أقدم العهود ولكن المشكلة أنّنا نعيش في زمن يتشدّق فيه كلّ من هبّ ودبّ بالديموقراطيّة والحريّة وجقّ تقرير المصير ويكرّر هذه العبارات التي أفرغت من محتواها أو كادت القاصي والداني كالببّغاء وبالتالي فلا بدّ من التعليل والتفسير والتجميل والتزويق وإذا صدّق الضحايا كلام السياسييّن المعسول فعساه خيراً وإن لم يصدّقوه فإلى جهنّم. 

No comments:

Post a Comment