Monday, August 6, 2018

دمشق عام ١٨٣٠

لا يمكن القول أنّ عاصمة سوريا حاليّاً وأكبر وأغنى واحاتها تاريخيّاً كانت مغلقة على الأجانب. يكفي أنّها كانت مرفأ الساحل السوري على الصحراء ومركز تجمّع قوافل الحجّ من الشمال والشرق -ناهيك عن كون بلاد الشام ككلّ كانت ممرّاً للتجّار والمبشّرين والغزاة منذ أقدم العصور- للتوكيد على "عالميّتها" إذا جاز التعبير. مع هذا لا يمكن إنكار أنّ دمشق كانت إلى أمد قريب نسبيّاً مدينة محافظة إسلاميّة الطابع تنظر إلى الغرب الأوروبي خصوصاً نظرة ريب وتوجّس وأنّها تأخّرت عن مصر والساحل اللبناني عشرات السنين في فتح أبوابها لهذا الغرب وعلّ هذا ما حدى الرحّالة الفرنسي de Breuvery (لم أنجح بالحصول عن معلومات عنه)  للقول بأنّ أكثر مدن سوريا جمالاً أبعدها عن حسن الضيافة ويروي تجربته عندما اعتدى الأهالي عليه وعلى صحبه قرب الصالحيّة بذريعة امتطائهم ظهور الدوابّ وهذا محظور على غير المسلمين. 



كتاب "من دمشق إلى تدمر" صدر عام ١٨٤٨ ولكنّه يروي رحلة المؤلّف عام ١٨٣٠ تحت ولاية رؤوف باشا وقبيل دخول إبراهيم باشا المصري إلى سوريا وما رافقه من تحسّن ملحوظ في وضع الأقلّيات عموماً والمسيحييّن خصوصاً. هدف الكتاب ليس دمشق وإنّما تدمر التي ألهبت خيال الأوروبييّن من خلال ما قرؤوه عن زنوبيا و Aurelian ولكن تدمر ليست موضوع مقال اليوم وفي كلّ الأحوال كتب de Breuvery عن رحلة الذهاب إلى عروس الصحراء والإياب منها -مروراً بجيرود وقريتين- والمخاطر على الطريق وغارات البدو وابتزازهم له ولصحبه أكثر بكثير ممّا كتب عن أطلالها. سأضرب صفحاً عن هذه التفاصيل وأحاول عوضاً عن ذلك رسم بعض الخطوط العريضة لدمشق الشام كما رآها المؤلّف ويستطيع من يقرأ الفرنسيّة ويرغب في الاطّلاع على كامل الكتاب أن يفعل ذلك بالنقر هنا

قدّر الكاتب عدد سكّان دمشق بحوالي ١١٠٠٠٠ مسلم "متعصّب" fanatique و ١٧٠٠٠ مسيحي و ٢٥٠٠ يهودي. عن تاريخها فقد تعرّض بسرعة لذكرها في كتاب العهد القديم ثمّ عرّج على غزاتها بداية بالعبرانييّن ووصولاً إلى الفتح الإسلامي وهنا يزعم أنّ المسلمين قاموا بذبح معظم سكّان المدينة وبالطبع لم يذكر مصادره وليس هذا بمستغرب إذا أخذنا بعين الاعتبار الفترة التي كتب فيها وفي كلّ الأحوال ليست المعلومات التاريخيّة المذكورة في الكتاب ممّا يعتدّ به لا كمّاً ولا نوعاً.

وصف المدينة أكثر إثارة للاهتمام على قصره ويبدأ الرحّالة بقصر الباشا "كوخ كئيب من الخشب المسوّس" وهو لا يوضح موقعه ولربّما كان الكلام عن قصر كنج يوسف باشا الذي حلّ محلّه لاحقاً بناء العابد في ساحة المرجة. أشهر مقاهي دمشق في باب السلام شمال المدينة على جزيرة في نهر بردى وهو هنا يحذّر من محاولة مقارنة مقاهي دمشق بنظيرتها الفاخرة في أوروبا ولكنّه مع ذلك يقول أنّ الخضار والهواء المنعش والماء الرائق إلى درجة الشفافيّة تعوّض عن تواضع المكان. الأبنية الدينيّة في كلّ مكان ولكنّها مهملة وحتّى التكيّة السليمانيّة كانت آيلة للتداعي أمّا عن جامع بني أميّة فالحيّز المخصّص له صغير للغاية ويكتفي المؤلّف بالقول أنّه كان أصلاً كنيسة ليوحنّا المعمدان وأنّ الوليد لم يفعل أكثر من إجراء بعض التعديلات والإضافات عليها. لا ذكر لمعبد جوبيتر ولا لتفاصيل تذكر عن الجامع وما كان هذا سهلاً في زمن حرّم فيه على غير المسلمين دخوله. القلعة في معظمها رومانيّة الصنع -الكلام دوماً للمؤلّف- وأمّا عن أسوار المدينة فهي متهدّمة والخنادق المحيطة بها أصبحت أشبه بالمقذرة بمياهها الخضراء الآسنة. يلي ذلك وصف للشوارع والأسواق الضيّقة ثمّ البيوت الدمشقيّة المتواضعة من الخارج والشديدة البهاء من الداخل.

الميدان مرتع دائم للتمرّد والعصيان وأهل الصالحيّة متزمّتون. الفصل بين الجنسين صارم في دمشق وحتّى لدى المسيحييّن من شبه المستحيل أن يحظى الرجل برؤية العروس قبل الزفاف إذ كافّة مراسيم الخطبة تتمّ بين الإناث من أهله وأهلها وكثيراً ما يرسم العريس في مخيّلته صورة كاملة مثاليّة لشريكته المقبلة تتبخّر بمجرّد إتمام عقد القران. حتّى عرض المرأة على طبيب إذا مرضت كان من الصعوبة بمكان ويفترض أن يكتفي هذا الأخير بوصف شكواها كما ينقلها الزوج ويخطّط العلاج بناءً على ذلك.  أبواب حارات المدينة يحرسها ليلاً العميان وعلى اعتبار أنّ ظلام الليل كان دامساً في زمن لا يعرف الإنارة الكهربائيّة فلا يقدّم البصر كثيراً أو يؤخّر أو هكذا على الأقلّ يدّعي المؤلّف. 

لا يتجاوز عدد صفحات الكتيّب ١٥٠ من القطع الصغير وحصّة دمشق فيه تقارب الثلث وبالتالي فالتفاصيل حكماً محدودة بغضّ النظر عن دقّتها ومصداقبتها. مع ذلك لا يمكن إهمال عمل من هذا النوع على نواقصه فمهمّة من يتوخّى رسم صورة معقولة للأحداث الماضية أشبه بمن يحاول فكّ لغز كلمات متقاطعة مع ضرب صعوبته بعشرات آلاف المرّات. يبقى ما كتب عن دمشق أقلّ بكثير ممّا تستحّق ولا يجوز إهمال أي مساهمة تاريخيّة نستطيع نبشها بغضّ النظر عن رأي المساهم وغرضه ودوافعه وتحيّزه.   




No comments:

Post a Comment