ترك لنا الرحّالة وعالم الآثار الفرنسي Victor Guérin كتاباً ثميناً عن "الديار المقدّسة" نشر على جزئين في عاميّ ١٨٨٢ و ١٨٨٤ دوّن قيه معالم الشرق الأدنى التاريخيّة من تدمر والساحل السوري شمالاً وشرقاً إلى مصر والنوبة جنوباً وغرباً. استند في الغالبيّة العظمى من كتاباته (مع بعض الاستثناءات كتدمر ومصر) إلى معلومات جمعها ميدانيّاً خلال عدّة رحلات قام بها للمنطقة اعتباراً من عام ١٨٥٢ حاول فيها التوفيق بين معايناته على أرض الواقع وبين ما قرأه في النصوص التاريخيّة والدينيّة مع تركيز خاصّ على هذه الأخيرة وهذا متوقّع من كاثوليكي شديد التديّن في القرن التاسع عشر.
لا تقتصر خلفيّة السيّد Guérin على الجانب الديني فهو علاوة على ذلك فرنسي غيّور وأوروبي حتّى صميم النخاع ولا يملك -على إعجابه ببعض الآثار الشرقيّة- إلاّ أن يبدي بين الحين والحين ازدرائه للعمارة الإسلاميّة أو العربيّة إذا شئنا ويتجلّى هذا في تشكيكه المستمرّ عندما يصادف صرحاً متقناً في بنيانه بأن يكون هذا الصرح محليّ الإلهام والتنفيذ اللهمّ إلّا إذا سبق الإسلام. فسيفساء الأموي مثلاً بيزنطيّة وقلعة دمشق رومانيّة أو حتّى سابقة للرومان وهلمّجرّا. لا بدّ وأن يؤدّي تعصّب من هذا النوع إلى الوقوع في الكثير من الأخطاء التاريخيّة خاصّة وأنّ المؤلّف يتعامل مع نصوص الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد كحقائق لا يرقى إليها الشكّ ولسان حاله يقول أنّه ليس من المعقول أن تكون السيرة التي اتّفق عليها كلّ الناس منذ آلاف السنين مغلوطة ومهمّة الباحث المدقّق تكمن في إثبات ما يمكن إثباته منها والقبول بالباقي كمسلّمات إلى أن يأتي من يستطيع توكيدها.
كلّ هذا لا يقلّل من قيمة الكتاب ولا من الجهد الهائل المبذول في جمع معلوماته عبر سنوات من الترحال على ظهور الدوابّ قام فيها بوصف العمائر المختلفة وقياساتها وحالتها من الصيانة أو الإهمال وتاريخها (وهو على إلمام معقول حتّى بالمصادر الإسلاميّة) أضف إلى ذلك مئات من اللوحات البديعة التي لا تقدّر بثمن والتي لا تزال شواهداً حيّة توردها المراجع والدراسات الحديثة باستمرار.
لم يتجاوز عدد سكّان القدس وقتها ٢٣٠٠٠ (٧٥٠٠ مسلم و ١٠٠٠٠ يهودي والباقي مسيحيّون أكثرهم روم أورثوذوكس أو من أسماهم المؤلّف بجرعة لا بأس بها من الفوقيّة "بالمنشقّين" schismatiques) أمّا عن دمشق فقد بلغ عدد سكّانها وقتها حوالي ١٣٠٠٠٠ نسمة (١٠٠٠٠ مسيحي و ٦٠٠٠ يهودي والباقي مسلمون). كما نرى بلغ عدد سكّان دمشق وقتها ٥ إلى ٦ أضعاف عدد سكّان القدس ومع ذلك خصّص الكاتب لدمشق ٤٠ صفحة فقط (إجمالي الكتاب بجزأيه ١٠٠٠ صفحة) مقابل ١٥٠ للقدس وهذا متوقّع كون أهميّة القدس الدينيّة لليهود والمسيحييّن والمسلمين كانت ولا تزال تتجاوز أهميّة دمشق.
ليس المقصود بالطبع التقليل من أهميّة دمشق الدينيّة فهي مترافقة أبداً مع سيرة القدّيس بولس وجامعها الأموي أحد أقدم أوابد الإسلام وأكثرها مهابة دون التعرّض لتاريخه الطويل منذ أيّام الآرامييّن مرورراً بالرومان والبيزنطييّن ولكن رصيد بيت المقدس بداية من هيكل سليمان الأسطوري (يمكن هنا استعمال كلمة أسطوري بالمعنى الحقيقي أو المجازي حسب السياق) ومروراً بدرب آلام يسوع الناصري ونهاية بالإسراء والمعراج أكبر بكثير والنزاع الديني على القدس قديم قدم الحروب الصليبيّة ولا يزال مستمرّاً في القرن الحادي والعشرين.
في كلّ الأحوال لن أتعرّض لما رواه المؤلّف عن القدس وأترك وصفها لأهلها ومن هو خبير بها. ما سأحاول القيام به في الأسابيع المقبلة هو وصف دمشق من خلال صور الكتاب وسأقوم قدر المستطاع بترجمة ما كتبه السيّد Guérin دون تجميل أو تعديل وسأرفق مع الترجمة النصّ الفرنسي لمن يفضّل الرجوع إليه ويمكن أيضاً تحميل الكتاب بالكامل على الرابطين أدناه بالمجّان. بالنسبة للأخطاء فسأتركها كما وردت في النصّ الأصلي مهما بلغت في غلوائها مع التصحيح في حواشي ملحقة حسب الحاجة.
للحديث بقيّة.
https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k36684j/f2.image
https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k6211640v/f11.image.texteImage
No comments:
Post a Comment