متى انتهى العالم القديم في دمشق؟
طرح الأستاذ الأسترالي Ross Burns هذا السؤال في كتابه عن تاريخ دمشق وارتأى في إجابته أنّ ستاراً أسدل على الشام بعد سقوط الدولة الأمويّة دام عدّة قرون ليرفع بالنتيجة حوالي عام ١١٠٠ للميلاد أي مع بدايات الحملات الصليبيّة عندما تعدّدت المصادر الكتابيّة من الشرق والغرب أضف إلى ذلك أبنية وأوابد بعد هذا التاريخ لا يزال بعضها موجوداً حتّى اليوم.
قبل الدخول في قضيّة القدّيس يوحنّا الدمشقي كشاهد عيان على الإسلام من خارجه في زمن دارس لم يترك لنا من المصادر المباشرة الموثوقة إلّا النزر اليسير، يحسن هنا التعرّض للمدارس الإستشراقيّة المختلفة عن بدايات الإسلام كما حدّدها Fred Donner ونقلها عنه بتصرّف الأستاذ Daniel Janosik:
المدرسة التقليديّة Traditional
تسلّم هذه المدرسة أنّ القرآن يحتوي على معلومات حقيقيّة عن محمّد وتعاليمه وأنّ المدوّنات الإسلاميّة المكتوبة بعد موته بأكثر من قرن ونصف موثوقة مع التحفّظ أنّ الأحاديث يجب أن ينظر إليها كأدبيّات دينيّة أكثر منها تاريخيّة. يرحّب المسلمون بهذا المنهج عموماً وهنا تجدر الإشارة إلى غياب ذكر الأحاديث النبويّة في كتابات يوحنّا الدمشقي أكثر من مائة عام بعد موت النبي (مات ابن إسحاق أوّل من كتب سيرة محمّد عام ٧٦٨ للميلاد ولكنّنا لا نعرفه مباشرة بل عن طريق ابن هشام الذي مات عام ٨٣٣).
المدرسة النقديّة للمصادر Source-Critical
بدأت في منتصف القرن التاسع عشر وتقول بوجود مادّة تاريخيّة أصليّة يمكن الاعتماد عليها ولكنّها خلطت لاحقاً بكثير من الأباطيل عن طريق نقل شفهي مشوّه وغير موثوق وبالتالي لا يمكن اعتبار جميع الأحاديث النبويّة بالذات تاريخيّة ويتعيّن اللجوء إلى المصادر غر الإسلاميّة لتعزيز أو دحض ما يقوله المسلمون. تكمن المشكلة هنا في غياب مصادر كتابيّة عن القرن الأوّل للإسلام.
مدرسة نقد السيرة Tradition-Critical
رائد هذه المدرسة المستشرق Ignaz Goldziher الذي باشر بدراسة الحديث عام ١٨٩٠ وارتأى أنّ النصوص المقدّسة (الإسلام والحديث) تحتوي على "نواة من الحقيقة" مشوبة برواسب تراكمت عبر قرون من الخلافات السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة كانت حيويّة في الوقت الذي كتبت فيه هذه النصوص وليس في الوقت الذي كتبت عنه. الأحاديث المزوّرة عن محمّد كثيرة وشكّك Goldziher بالنتيجة في الأحاديث ككلّ وخصوصاً بالإسناد.
المدرسة المشكّكة والمراجعة Skeptical أو Revisionist
ترفض هذه المدرسة "نواة حقيقة" Goldziher وتقول أنّ القرآن اشتقّ من عدّة مصادر سابقة للإسلام مسيحيّة ويهوديّة وتضيف أنّ نصّ القرآن القانوني يعود لأواخر القرن الثاني الهجري وبالتالي لا يمكن استعماله كمصدر لا ريب فيه عن أصول الإسلام ودور محمّد. بالطبع الأحاديث النبويّة مرفوضة جملة وتفصيلاً كمرجع تاريخي. تعتبر الأكاديميّة Patricia Crone أنّ المادّة المتوافرة حاليّاً لا تعدوا كونها بقايا للجدل الديني ومعظمها أنقاض مهشّمة لماض دارس. ذهبت Crone إلى درجة التشكيك بمحمّد كشخصيّة تاريخيّة وتراجعت عن رأيها لاحقاً.
المدرسة المراجعة الجديدة Neo-Revisionist
يمكن اعتبارها امتداداً للسابقة إذ ترى Crone أنّ الطريقة المثلى لمعرفة ما حدث فعلاً تكمن في طرح السيرة الإسلاميّة جانباً وبداية الدراسة من جديد. ترفض هذه المدرسة المصادر الغير معاصرة للأحداث التي تتكلّم عنها ودعى هذا يهوذا نيفو Yehuda Nevo ويهوديت كورين Judith Koren إلى رفض كلّ ما هو غير ملموس وبالتالي اقتصر بحثهما غلى الآثار والنقوش الكتابيّة والنقد (العملة). قد يبدوا هذا الطرح سليماً للوهلة الأولى والمشكلة -وهي قطعاً ليست وقفاً على التاريخ الإسلامي- أنّ الآثار الماديّة الملموسة غير كافية.
يمكن هنا التساؤل عن أسباب نجاح الفتوحات العربيّة ويختلف الجواب حسب المدرسة إذ يعطي الشرقيّون الفضل بالدرجة الأولى لإيمان المسلمين برسالتهم بينما يركّز الغربيّون في تفسيرهم لسهولة وسرعة هذه الفتوحات على ضعف الإمبراطوريّة البيزنطيّة وغريمتها الإيرانيّة بعد سنوات من الحروب التي استنزفت طاقاتهما وجعلتهما تقعان لقمة سائغة للعرب. يتبنّى المراجعون الجدد فرضيّة مخالفة تماماًَ تنفي "الفتوحات" من أساسها وتقول كتفسير بديل أنّ العرب -مسلمين وغير مسلمين- "هاجروا" إلى بلاد الشام وغيرها من الأراضي التي أخلاها البيزنطيّون (يضيف Nevo أنّ أحد العوامل كانت وقف الدعم المالي البيزنطي الذي اشترى ولاء القبائل العربيّة سابقاً) وتقارن Crone بين "هجرة العرب" إلى سوريا وبين خروج Exodus العبرانييّن من مصر إلى أرض الميعاد وتزيد فتقول أنّ "الهجرة" الإسلاميّة لم تكن من مكّة إلى المدينة بل من البادية إلى الشام ومنه تعبير "الهاجرييّن" لوصف المسلمين نسبة لهاجر (زوج ابراهيم وأمّ اسماعيل) أو الهجرة.
للحديث بقيّة.
No comments:
Post a Comment