عبارة لربّما لا يزال البعض يستعملها حتّى اليوم وسمعتها مباشرة من سيّدة لبنانيّة عام ١٩٨٤ أمّا العلم أعلاه فهو الأوّل في عهد الانتداب الفرنسي ويسمّيه البعض علم غورو نسبة للجنرال Henri Gouraud الذي يترافق اسمه بمعركة خان ميسلون ويوسف العظمة. دام هذا العلم من ١٩٢٠ إلى ١٩٢٢ وموضوع البجث هنا ليس الانتداب بحدّ ذاته وإنّما خلفيّة هذا الانتداب التاريخيّة كما وصفها Michel Seurat في مقال مفصّل وموثّق بطول حوالي ٥٠ صفحة في كتاب "دولة الهمجيّة" (ترجم حوالي نصف هذا الكتاب إلى العربيّة لن أتعرّض له وأرفق مراجعة عنه في أحد الروابط أدناه مع جزبل الشكر للسيّد عبد الوهاب العمشة).
شدّد Seurat على دور مدينة Lyon الفرنسيّة في تسويق الانتداب وأرجع أسبابه إلى عوامل تجاريّة وأكاديميّة ودينيّة.
العوامل التجاريّة والاقتصاديّة
كانت الحرب العظمى أو ما سمّي لاحقاً الحرب العالميّة الأولى ١٩١٤-١٩١٨ كارثة على أوروبا بكاملها شملت المهزومين (روسيا وألمانيا وامبراطوريّة النمسا-المجر) و"المنتصرين" أي الامبراطوريّتين البريطانيّة الفرنسيّة إذ خرجت كلاهما من المعمعة مثخنتان بالجراح ومثقلتان بالديون وخسرتا أكثر من مليونّي شابّ من القتلى دون ذكر الجرحى والأيتام والثكالى. بدت هاتان الامبراطوريّتان في الفترة بين الحربين ١٩١٨-١٩٣٩ في أوج اتّساعهما ولكن المظاهر خادعة كما أثبتت الأحداث فيما بعد وإن تعذّر إدراك حقائق الأمور على الغالبيّة العظمى من الناس وقتها حتّى الأخصّائيين منهم.
الحروب العصريّة مكلفة للغاية والمعضلة بالنسبة لمناصريّ الاستعمار عموماً والانتداب الفرنسي في سوريا خصوصاً كانت وقتها في التلويح لدافعي الضرائب بالفوائد الاقتصاديّة له بهدف تبرير تمويل الجيش المزمع إرساله إلى المشرق.
يمكن -على الأقلّ للروائييّن- إرجاع علاقة فرنسا بسوريا والشرق إلى سفارة هارون الرشيد لشرلمان ومنها إلى الحروب الصليبيّة مروراً بالامتيازات التي منحها سليمان القانوني عام ١٥٣٥ إلى François الأوّل وصولاً إلى صعود تجارة الحرير مع نهاية القرن التاسع عشر ومعها البورجوازيّة المسيحيّة اللبنانيّة (نسبة لجبل لبنان وليس دولة لبنان الحاليّة) بفضل رؤوس الأموال والاستثمارات الفرنسيّة. ارتأى البعض أنّ سوريا ستكون مكلفة لفرنسا بالرجال والمال بينما ردّ آخرون -بالذات تجّار Lyon- أنّ الاستثمار يستحقّ الجهد والنفقات المبذولة.
العوامل الدينيّة
تختلط هذه إلى حدّ كبير بالعوامل العاطفيّة خصوصاً فيما يتعلّق بمسيحيّي سوريا وبالذات موارنة جبل لبنان. ألم ينضمّ ٣٠٠٠٠ ماروني إلى جيش Godefroy de Bouillon في الحملة الصليبيّة الأولى؟ ألم يشترك الموارنة في الحملة الصليبية السابعة ضدّ مصر في عهد القدّيس لويس (أي Louis التاسع) الذي اعتبرهم من "الأمّة الفرنسيّة"؟ ألم تهبّ فرنسا لإغاثة المسيحييّن في الشرق الإدنى في أعقاب مجزرة ١٨٦٠؟
كانت فرنسا رائدة في مجال البعثات الدينيّىة إلى سوريا منذ عام ١٦٢٦ وآباء Lyon اليسوعييّن. تأسّست المطبعة الكاثوليكيّة عام ١٨٥٣ وكان ٣/٤ من جميع المبشّرين إلى سوريا من جميع المذاهب فرنسيّون حتّى عام ١٩١٤ وكان ٥٢٠٠٠ من أصل ٩٠٠٠٠ تلميذ في سوريا وفلسطين يدرسون في مؤسّسات فرنسيّة عام ١٩١٢. من الملفت للنظر أنّه في الوقت الذي كان الفرنسيّون يفرضون العلمانيّة في بلادهم (قطع الفاتيكان علاقاته مع فرنسا ١٩٠٤-١٩٢٠ بسبب سياساتها العلمانيّة) كانوا يستعملون المؤسّسات الدينيّة التبشيريّة في مستعمراتهم كوسيلة لبسط ثقافتهم وبالجملة هيمنتهم السياسيّة والاقتصاديّة.
ساهم عدد من السورييّن (أو اللبنانييّن إذا شئت) في محاولة إقناع الرأي العامّ الفرنسي وعلى سبيل المثال جورج سمنة وندرة مطران وشكري غانم الذين تجاوز حبّهم لفرنسا كلّ الحدود وهالهم التفكير في مصير سوريا "ابنة فرنسا" في حال نجاح مشروع فيصل والهاشمييّن في مملكة تدار من الجزيرة العربيّة (عارضوا أيضاً المشروع الصهيوني في فلسطين) وكان لا بدّ من رشّ "البهارات" كما في قصّة "استشهاد" الخوري يوسف الحايك الذي أعدمه جمال باشا عام ١٩١٥ في ساحة المرجة في دمشق وهو يهتف "تحيا فرنسا تحيا فرنسا تحيا فرنسا".
العوامل الأكاديميّة
تزعّمتها أيضاً مدينة Lyon إذ طالب مجلس جامعتها بسوريا الجغرافيّة كما حدّدها الأساتذة والمؤرّخون تحت وصاية فرنسا معتمدين على الحجج "العقلانيّة" والعواطف واعتبروا أنّ مهمّة فرنسا في الشام ليست حقّاً لها بمقدار كونه واجباً عليها. أدلت الصحافة بدلوها بعبارات مثل "سوريا ابنة فرنسا والأمّ -الرؤوم- لا تتخلّى عن أولادها" وأيضاً "أعطانا السوريّون الكثير من دمائهم فلنعطهم قليلاً من قلوبنا" وثالثة الأثافي "سوريا ليست منطقة يقطنها الزنوج كتوغو الألمانيّة والكاميرون التي يتعيّن فيها إنشاء كل شيء من البداية وإنّما بلد يملك مدناً غنيّة".
طرح حقّ تقرير المصير جانباً كاقتراح غير عملي لا يجوز تقديمه للأغلبيّة الجاهلة والمتعصّبة وحتّى الذين شكّكوا في حكمة الانتداب في البداية انتهى بهم الأمر إلى قبوله عندما أصبح أمراً واقعاً على أساس أنّه من المشين لفرنسا كقوّة عظمى أن تنسحب من التزاماتها جارّة أذيال الخيبة. سخط الفرنسيّون عندما اندلعت ثورة جبل الدروز (ومنها إلى دمشق) على الضجيج الإعلامي الذي ترافق معها ولاموه على الدعاية البريطانيّة المعادية لفرنسا تماماً كما رفضوا فيصل بن الحسين -كعميل بريطاني- ملكاً على سوريا.
باختصار أجمع أولياء الأمور وأوصياء الفكر في فرنسا من اليمين واليسار كلّ لأسبابه على تميّز فرنسا عن شعوب الأرض وطيبتها وحسن نواياها في وقت كانت التعابير والصور العنصريّة النمطيّة عن العرب تملأ وسائل إعلامها.
Michel Seurat. Létat de barbarie. Edition du Seuil 1989.
No comments:
Post a Comment