عانت الدولة الفاطميّة بعد أقلّ من قرن على تأسيسها من أعراض "فرط التمطّط الإمبراطوري" أو imperial overstretch وهو مصطلح استعمله المؤرّخ Paul Kennedy من جامعة Yale في كتابه الكلاسيكي عن صعود وسقوط القوى العظمى The Rise and Fall of the Great Powers الصادر عام ١٩٨٧ وهذا يحصل باختصار عندما تتجاوز أكلاف الحفاظ على الإمبراطوريّة والدفاع عن غزواتها وفتوحاتها المكاسب المأمول فيها من هذه الإمبراطورية وهذا بالطبع من وجهة نظر العاصمة ومركز الدولة. يتطلّب الدفاع عن الإمبراطوريّة جيوشاً جرّارة ومكلفة ومع الزمن تصبح نفقات إكساء وإطعام وتسليح العسكر والعناية بهم بعد تقاعدهم وبعائلاتهم باهظة للغاية وتصبح موارد الدولة -حتّى ولو كانت بغنى مصر الفاطميّة أو بغداد هارون الرشيد الذي زعموا أنّ خراج سحاب الأرض قاطبة يعود إليه بالنهاية أنّى ذهب- غير كافية وتتعرّض السلطة لتمرّد الجنود عندما تتأخّر بالدفع لهم ويلزمها أحياناً استيراد جنود آخرين لمحاربة هؤلاء الجنود والأمثلة في التاريخ لا تعدّ ولا تحصى. علاوة على ذلك لربّما كان غزو سوريا بالذات سهلاً نظراً لتفرّقها الجغرافي والسياسي وفرديّة أهلها ولكن نفس العوامل التي تسّهل دخول الفاتحين إلى بلاد الشام تتآمر لتجعل مهمّة الحفاظ عليها صعبة للغاية تستنزف الكثير من الموارد.
نأتي الآن إلى عهد الحاكم بأمر الله أمير مؤمنين السنّة وإمام الشيعة من ٩٩٦ إلى ١٠٢١. كان الحاكم أوّل خليفة فاطمي من مواليد القاهرة وكتب عنه الكثير ومعظمه سلبي (مع التحفّظ على هويّة من كتب عنه ومتى تمّت الكتابة وما إذا كانت منزّهة عن الأهواء). إذا تتبّعنا مخطوطات الكتّاب العرب في القرون الوسطى والتي بنى عليها الأستاذ Thierry Bianquis دراسته نرى أنّ هذا العاهل الشاب (كان عمره ١١ سنة عندما تسلّم زمام الأمور) نفر بعد فترة قصيرة من بلاط القاهرة وحاول أن يندمج مع شعب الفسطاط - مصر وأغلبيّتهم سنّة ويتودّد إليهم وارتأى في سبيل ذلك أن يحابيهم على حساب "أهل الذمّة" الذين كانوا معزّزين مكرّمين في عهد أبيه العزيز بالله الذي اعتمد عليهم إلى أقصى الحدود في الأمور الإداريّة والماليّة وهكذا أمر الحاكم بتحريم الخمر وسمح بهدم الكنائس والمقابر المسيحيّة لبناء جوامع على أنقاضها وذهب إلى حدّ تدمير كنيسة القيامة في القدس. لا يبدو أنّ مساعي الحاكم في التقريب بين الإسلام الإسماعيلي ونظيره السنّي طوعاً أو قسراً على حساب المسيحييّن واليهود قد أحرزت نجاحاً يستحقّ الذكر ومن هنا تشجيعه "للتوحيديّة" أي المذهب الدرزي الذي حابى أتباعه وإن لم يوجد دليل أنّه كان هو نفسه درزيّاً على الأقلّ حسب المصادر التي درسها الأستاذ Bianquis. سمح الحاكم لاحقاً لليهود والمسيحييّن الذين اعتنقوا الإسلام لتجنّب الإضطهاد أن "يرتدّوا" وبهذا انتهى به الأمر أن يخسر حتّى تأييد المسلمين رغم كل جهوده لخطب ودّهم.
احترق جامع بني أميّة الكبير في دمشق عام ١٠٦٩ على إثر فتنة بين جنود الفاطمييّن المغاربة والشرقييّن شارك فيها بدو بني كلب الذين نصحوا أهل دمشق بمحاولة إثارة الشقاق بين صفوف عسكر القاهرة وكانت آخر أيّام الفاطمييّن في الشام كارثيّة أقفرت فيها المدينة التي هبط عدد سكّانها من نصف مليون إلى ثلاثة آلاف والاعتماد هنا على أرقام سبط إبن الجوزي (١١٨٦ - ١٢٥٦) عن إبن القلانسي (١٠٧٢ - ١١٦٠) ولكن هنا يحسن التذكير بأنّ هذه الأرقام غير معقولة فكما نرى من الخريطة الملحقة كانت دمشق الفاطميّة محصورة داخل السور باستثناء المناطق المجاورة لباب الفراديس في الشمال والشاغور في الجنوب ورقم نصف مليون لأي مدينة في القرون الوسطى إذا وجد على الإطلاق فيوجد في عواصم الإمبراطوريّات كالقسطنطينيّة والقاهرة وليس في دمشق التي كانت ولا شك مدينة هامّة ولكنها في نهاية الأمر محليّة بعيدة عن البحار أو الأنهار العظمى التي تصلح للملاحة وتفتقر إلى الأجهزة الإداريّة التي لا غنى عنها في العواصم. يمكننا أيضاً أن نرفض الرقم الأدنى (ثلاثة آلاف) مهما كان حجم الكارثة فدمشق ليست داريّا أو دوما مع كامل المحبّة لهاتين المدينتين ولا أدلّ على ذلك من نهضتها السريعة في القرن الثاني عشر تحت الأتابكة والأيّوبييّن.
دمشق الفاطميّة |
شهدت نهاية العهد الفاطمي في سوريا صعود نجم السلاجقة بقيادة ألب أرسلان الذين ألحقوا بالبيزنطييّن هزيمة نكراء في معركة ملازغرد أو منزيكرت عام ١٠٧١ وأسروا الإمبراطور Romanos IV Diogenes ليجتاحوا بعدها آسيا الصغرى التي تغلغل فيها الأتراك وسقطت أنطاكيا في أيديهم عام ١٠٨٤ بعد أكثر من قرن تحت الحكم البيزنطي. شهد العام التالي (١٠٨٥) مصرع آخر أمير عربي في حلب التي دخلت في العصر التركي منذ ذلك الوقت وحتّى مطلع القرن العشرين أمّا عن دمشق فقد دخلها السلاجقة قبل حلب ببضع سنوات مع ما عناه هذا من تغيير الدعاء للإمام الفاطمي على المنابر إلى الخليفة العبّاسي الذي حكم السلاجقة بإسمه وإن لم تكن له سلطة فعليّة.
ختاماً لا بدّ من التعرّض بسرعة (وهذه إضافة منّي لم يتعرّض لها الأستاذ Bianquis) لما تبقّى من الفاطمييّن بعد أن حكموا مصر لقرنين وأجزاء كبيرة من سوريا -لدرجة أقلّ طبعاً- لمائة عام. لا أعلم إذا كان هناك وجود إسماعيلي يستحقّ الذكر في شمال إفريقيا عموماً ومصر خصوصاً رغم أنّهم وباعتراف الجميع بناة الجامع الأزهر (معقل الإسلام السنّي حاليّاً). بالنسبة لسوريا فهناك بالطبع أقليّة إسماعيليّة حتّى اليوم وكان أحد أعلامهم الكاتب الكبير الراحل محمّد الماغوط أمّا عن دمشق بالذات فقد تمّ استئصال شأفة مخلّفات الحكم الفاطمي فبها عام ١١٢٩ تحت حكم الأتابك تاج الملوك بوري إبن طغتكين عندما جرت مذبحة ذهب ضحيّتها ٦٠٠٠ إسماعيلي حسب رواية المؤرّخ الدمشقي شمس الدين الذهبي ١٢٧٤ - ١٣٤٨ في كتاب "العبر في خير من غبر" ولم يمنع كلّ هذا كتبة العصور اللّاحقة من لوم الضحيّة -أي الإسماعيلييّن- الذين نعت بعضهم بالحشّاشين واتّهموا من قبل الأوروبييّن والشرقييّن على حدّ سواء باغتيال خصومهم غدراً وخيانة إلى درجة دخول مصطلح assassination "اغتيال" إلى اللغات الللاتينيّة.
http://books.openedition.org/ifpo/6437
http://books.openedition.org/ifpo/6458
http://www.ifporient.org/node/1542
http://bornindamascus.blogspot.com/2017/08/blog-post_16.html
http://bornindamascus.blogspot.com/2017/08/blog-post_18.htm
No comments:
Post a Comment