Thursday, February 22, 2018

سوريا والطائفيّة المقنّعة


لربّما كان العنوان الأصحّ لهذا المقال "الطائفيّة التي لم تعد مقنّعة". في كلّ الأحوال موضوع البحث هنا المقال الرابع في كتاب سوريا اليوم بقلم الراحل ميشيل سورا وبعنوان "الشعوب، الدولة، والمجتمع". المقال يتجاوز الخمسين صفحة وهو شديد الغنى بالمعلومات ولا يمكن إعطائه حقّه في صفحة أو صفحتين ولهذا فسأقسمه إلى قسمين مع مقدّمة قصيرة قبل التعرّض لفحواه.

الخطاب السوري عموماً والبعثي خصوصاً عربي بامتياز ويدين الإقليميّة والعشائريّة والطائفيّة إلى درجة إنكار هويّة الغير أو على الأقلّ تجاهلها. كلّ من درس مناهج المدارس السوريّة يعلم أنّها تخلو من أي إشارة للأقليّات الدينيّة وتاريخها ومعتقداتها. طلّابنا يدرسون تاريخ "الوطن العربي" ولكنّهم لا يعرفون عن الطوائف الدرزيّة والعلويّة والإسماعيليّة والمسيحيّة في سوريا إلّا ما يتلقّونه في دروس "التربية الدينيّة" وما يتعلّمونه من أهلهم وفي دور عبادتهم وما يتهامس به كثير منهم في السرّ عن بقيّة الطوائف وكثير منه سلبي إلى أبعد الحدود والنتيجة فتح الباب على مصراعيه للجهلة في الداخل والمغرضين في الخارج ليقولوا ما يشاؤون ويبذروا بذور الفتنة الطائفيّة التي يعتقد الإعلام السوري القاصر والمناهج المدرسيّة المتخلّفة أنّ عدم الكلام فيها يكفي لإلغائها.      

مدرسة المشاة في حلب ١٩٨٣


تعود بي الذاكرة إلى أواخر عام ١٩٨٣ ومدرسة المشاة في حلب. طالت إقامتي في هذه المدرسة كطالب ضابط حوالي ثلاثة أشهر وأمّا عن المبيت فقد تمّ توزيعنا على غرف بمعدّل ثمانية شباب في الغرفة. الطريقة التي تمّ بها الفرز لا تترك مجالاً للشكّ والمقصود بها "خلط" الطلاّب قدر الإمكان وبناء عليه كان نصيب غرفتي ٥ من السنّة و ٢ مسيحييّن (أحدهما آشوري) وعلوي واحد. هذا عن التوزيع الطائفي أمّا الإقليمي فكان بيننا إثنان من دمشق وحلبي وحمصي وثلاثة من اللاذقيّة (أحد الثلاثة من المدينة) والأخير من الحسكة. بالطبع لم يتطوّع أحد بذكر دينه أو أصله الجغرافي ولكن المرء لا يحتاج لمواهب الأنبياء والعرّافين ليتعرّف على اللهجة ومن التبست لهجته يمكن الإستدلال عليه من سلوكه (الصلاة مثلاً) أو لباسه (خصوصاً بالنسبة للنساء) أو الإسم (من غير المحتمل أن يسمّي المسلم إبنه "جورج" أو الشيعي "معاوية" على سبيل المثال). ليس هذا فحسب، أذكر خلال خدمتي اللاحقة أنّ ضابطاً وبّخ جنديّاً عندما عرّف الأخير نفسه "كدرزي" وكأنّ هذا نوع من إثارة "النعرة الطائفيّة"!



ليس المقصود هنا التشكيك بحسن نوايا العروبييّن ولكن الاعتراض على الأسلوب: حلّ المشاكل العشائريّة والطائفيّة لا يكون بتجاهلها كنوع من المحرّمات ولكن بالاعتراف بالفوارق واحترام هذه الفوارق علناً وعلى رؤوس الأشهاد لا بل وبفرض هذا الاحترام بقوّة القانون إذا دعت الحاجة. 

يقول Seurat وبحقّ أنّ تعريف "المجتمع السوري" صعب للغاية ويذهب إلى حدّ القول أنّ هذا المفهوم عديم المعنى فهناك خلط بين "الشعب" و"الأمّة" التي تعني في الشرق الأدنى "أمّة الإسلام" بغضّ النظر عمّا يدرّس في كتب التربية الوطنيّة وهي تكافىء "الملّة" كما عرفت في عهد العثمانييّن ومن هنا القول الشامي المأثور "يللّي ما بياخد من ملّتو بيموت بعلّتو" حيث الملّة = الدين. أمّا بالنسبة "للدولة" فهي هنا تعني جهاز بيروفراطي وعسكري ويتعيّن علينا بالتالي أن نميّز بينها وبين Nation-State كما هو الحال في الغرب. ينتج عن هذا أنّ تحقيق الوحدة على المستوى الاجتماعي الخالص أمر خارج عن الموضوع وأنّ الطريق العملي الوحيد لها يكون بفرضها من الأعلى من قبل السلطة الحاكمة. 

ينتقل المؤلّف إلى الأقليّات الدينيّة والمذهبيّة والإثنيّة فيعطي نبذة عن كلّ منها يغلب عليها الطابع التاريخي. تحديد التوزيع الديموغرافي الديني صعب للغاية إذ كان آخر إحصاء طائفي في سوريا عام ١٩٦٠ وتوقّف بعدها إلى إشعار آخر. يمكن مع ذلك القول أن نسبة المسيحييّن تناقصت في الستين عاماً الأخيرة (بعد أن كانت تتزايد في عهد الانتداب خصوصاً في حلب بعد لجوء الأرمن الذين استعان بهم الفرنسيّون مع الشركس لإخماد الثورة السوريّة حسب المؤلّف) ولأكثر من سبب. بالنسبة للطائفة العلويّة (والتي كانت تدعى نصيريّة قبل الانتداب ثمّ اختفت هذه التسمية أو كادت إلى أن أحياها طائفيّو القرن الواحد والعشرين بمعنى سلبي) فالمعلومات عنها إلى أمد قريب كانت قليلة للغاية ومستقاة في معظمها من أعدائها. عن المرشديّة فقد اعتبرتها الدولة السوريّة في مطلع عهد الإنفصال (أو اعتبرت سليمان المرشد على الأقلّ) حركة انفصاليّة وأعدم زعيمها كما هو معروف. 

بعد العلوييّن نأتي إلى الدروز فالمسيحييّن (بتقسيماتهم) فالأكراد فاليهود فالشركس فالإسماعيلييّن فاليزيدييّن. بالنسبة للبدو فهناك الشوايا (أنصاف البدو من أهل الجزيرة ويرعون الأغنام) والبدو رعاة الجمال والذين قلّ عددهم كثيراً لتناقص الحاجة للجمال من ناحية وسعي الدولة لتوطينهم بشتّى الوسائل من ناحية ثانية أمّا عن علاقة الريف مع المدينة فقد أدّت الهجرة المتزايدة والسريعة من الريف باتّحاه المدن (بهدف العمل أو الدراسة إلخ) إلى ما اعتبره البعض "قرونة المدن" عوضاً عن "تمدين أهل الريف". 

أخيراً حتّى على مستوى الأحزاب "العلمانيّة" نرى أنّ الحزب الشيوعي السوري كردي-مسيحي (حيّ القصّاع في دمشق)  وأنّ الحزب القومي السوري علوي-مسيحي وأمّا البعث فيختلف حسب المنطقة والشخص.

أفتى الدستور السوري عام ١٩٥٣ بأنّ الرئيس يجب أن يكون مسلماً وأعلن دستور الجمهوريّة العربيّة المتّحدة بعد هذا بسنوات قليلة الإسلام كدين للدولة. مع الأسف اعتبر الكثيرون أنّ الطريقة المثلى للقضاء على النعرة الطائفيّة تكون بفرض سيطرة الأغلبيّة.  

للحديث بقيّة. 

No comments:

Post a Comment