أمضيت مرحلة الدراسة منذ التحضيري وحتّى الكفاءة في مدرسة الإخوة المريمييّن الخاصّة أو معهد قلب يسوع الأقدس وأمّا عن المرحلة الثانويّة فكانت في ما عرف في الماضي باسم معهد الحريّة الذي أسّسته بعثة علماتيّة فرنسيّة في عهد الانتداب. كانت معظم الطوائف السوريّة ممثّلة بين الطالبات والطلّاب والمعلّمات والمعلّمين وجميعهم كانوا يحيّون العلم ويردّدون شعار البعث الشهير "أمّة عربيّة واحدة....ذات رسالة خالدة"! بما فيهم الأرمن. لماذا التركيز على الأرمن؟ الجواب بكل بساطة أنّه مع اعتقادي الراسخ أنّ الأرمن سوريّون بامتياز فمن المستبعد أنّهم ينظرون إلى أنفسهم كعرب. بالطبع لكل إنسان حقّ مطلق في تحديد هويّته ولست هنا في صدد الكلام نيابة عن الأرمن وليسوا بالتأكيد بحاجة لي أو لغيري لتمثيلهم. ما أقوله بكل بساطة أنّ أرمن سوريا شعب نشيط ومثقّف وشغّيل وفخور بتراثه يحاول جهده الحفاظ على لغته ويسمّي بناته وأبنائه بأسماء ليس فيها من العروبة الشيء الكثير وإن ساير الجوّ السياسي العامّ مكره أخاك لا بطل.
في كلّ الأحوال ليس هذا المقال عن أرمن سوريا الذين -على علمي- لا يطالبون لا باستقلال ولا بحكم ذاتي والفقرة السابقة ما هي إلّا تمهيد للدخول في صلب الموضوع: ما ينطبق على الأرمن ينطبق إلى حدّ ما على الأكراد مع فرق أنّ أكراد سوريا -على الأقلّ البعض في الشمال- يسيرون على خطى أكراد العراق في محاولة لخلق كيان ما، "وطن قومي" إذا شئنا.
لا داعي للتذكير بأنّ وجود الأكراد في سوريا قديم للغاية وأنّ كثيراً منهم انصهر في المجتمع السوري واتّخذ العربيّة لغة منذ قرون. الكلام هنا عن الأكراد الذين لا يتكلّمون العربيّة أو يتكلّمونها كلغة ثانية ومع ذلك يبقى هؤلاء الأكراد سوريّون شأنهم في ذلك شأن الأرمن ومن المحزن أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه بتضافر عدّة عوامل منها "جرعة العروبة" الزائدة عن الحدّ (من العدل أن يقال أنّها سبقت البعث بعقود) ومنها التدخّل الأجنبي الانتهازي.
لفت نظري من خلال قراءة الكتاب الأخير للدكتور Nikolaos Van Dam (صفحة ١٥) ما ذكره عن تجريد العديد من الأكراد السورييّن من جنسيّتهم عام ١٩٦٢ دون ذكر مصدر. حاولت إجراء بحث google للتحقّق من الموضوع ووجدته بالفعل على الويكيبيديا وغيرها ولكن جميع المراجع المذكورة كرديّة إن لم نقل انفصاليّة أو تردّد ما يقوله هؤلاء وهي طبعاّ ليست منزّهة عن الأهواء والأغراض. لا ذكر لهذا الموضوع في دراسة حنّا بطاطو عن قرويّي سوريا ولا في كتاب Patrick Seale عن الراحل حافظ الأسد ولكنّي عثرت عليه أخيراً في كتاب سوريا للسيّدة Tabitha Petran (صدر عام ١٩٧٢) إذ تقول في الصفحة ٢٣٦ أنّ البعث قام عام ١٩٦٣ بحملة "لإنقاذ الجزيرة من مخطّط كردي لخلق إسرائيل ثانية" وأنّ إحصاء جرى في تشرين الثاني عام ١٩٦٢ (أي زمن الانفصال) اعتبر كثيراً من الأكراد أجانب رغم حيازتهم على الهويّة السوريّة وتلى ذلك تجريدهم من الجنسيّة السوريّة وطردهم من المناطق المتاخمة للحدود التركيّة.
يعطي السيّد Michel Seurat في كتاب La Syrie d'Aujoud'hui (إصدار ١٩٨٠) المزيد من المعلومات فيقول (صفحة ١٠٣-١٠٥) أنّ الأكراد يمثّلون ٧٪ من سكّان سوريا ويتوزّعون شمالاً من الغرب إلى الشرق كما يلي: ١٥٠٠٠٠ في منطقة جبل الأكراد، ٣٠٠٠٠ في منطقة عين العرب، ٣٠٠٠٠٠ في الجزيرة العليا حيث يشكّلون ثلثي السكّان. يضيف فيقول أنّ إحصاءً استثنائيّاً عام ١٩٦٢ (زمن الانفصال) أسقط حقوق ١٢٠٠٠٠ كردي كأجانب سحبت منهم الجنسيّة السوريّة. أرجع المؤلّف أصل هذه السياسة للملازم أوّل محمّد طلب هلال رئيس الشعبة السياسيّة في محافظة الجزيرة الذي نشر دراسة في تشرين الثاني ١٩٦٣ (مطلع عهد البعث) أفتى فيها أنّ الأكراد شعب لا تاريخ له ولا حضارة ولا لغة ولا صفة له غير القوّة والبطش والشدّة. اقترح السيّد هلال "لحلّ المشكلة الكرديّة" إقامة "حزام عربي" بطول ٣٥٠ كيلومتر وعرض ١٥ كيلومتر يطرد منه الأكراد ويحلّ محلّهم عرب قوميّون أقحاح. كانت المرحلة التالية ترحيل ٣٠٠٠٠ كردي إلى الداخل ومن ثمّ نقل ٢٥٠٠٠ فلّاح عربي ممّن غمرت مياه الفرات أراضيهم بعد بناء السدّ إلى الجزيرة العليا وتزويدهم بالكهرباء والمشافي والمدارس وبقيّة الخدمات التي بقيت قرى الأكراد محرومة منها. حتّى الأسماء الطبوغرافيّة الكرديّة جرى استبدالها بأسماء عربيّة.
للمزيد من القراءة يزوّد السيّد Seurat المهتمّين بثلاثة عشر مرجعاً في نهاية هذا الفصل ذكرت بعضها أعلاه وجميعها فرنسيّة أو إنجليزيّة (أحدها إسرائيلي) وإن كان بينها دراسة للسيّد برهان غليون باللغة الفرنسيّة. ما يلفت النظر غياب أي مصدر رسمي أو شبه رسمي سوري لإعطاء منظور مختلف. لربّما كانت هذه المصادر موجودة ولكن محاولة العثور عليها كمحاولة العثور على إبرة في كومةمن القشّ. الإعلام السوري ينقصه -كان ولا يزال- التمويل والكفاءات المهنيّة بشكل صارخ.
هل تمّ فعلاً تجريد ١٢٠٠٠٠ كردي من الهويّة والجنسيّة السوريّة في مطلع الستينات في عهد كان عدد سكّان سوريا فيه يكاد لا يبلغ الخمسة ملايين؟ هل طرد عشرات الآلاف منهم من أراضيهم ليحلّ محلّهم "مستوطنون عرب"؟ لا يوجد لدي أدنى شكّ أنّ الخطاب العروبي أخطأ في حقّ الأقلّيات السورية التي لا يمكن وصفها بالعربيّة ولكن هذا لا يعني بالضرورة دقّة الأرقام أعلاه في غياب ما يسمّى في القضاء الغربي cross examination من السجلّات السوريّة الحكوميّة. في نهاية المطاف ألأكراد رفاق درب وإخوة وأهل وبربطنا معهم تاريخ يعود على الأقلّ للعهد الأيّوبي والملك الناصر صلاح الدين الذي شائت الأقدار أن يكون مثواه الأخير في عاصمته الثانية دمشق.
No comments:
Post a Comment