قبل الدخول في الفصل السادس من كتاب سوريا اليوم للأستاذ أوليفييه كاريه أريد لإزالة أيّ التباس التوكيد أنّني لست بعثيّاً ولم أنتم لأي حزب في حياتي. ليس ذلك فحسب، بل رسبت مرّتين عندما كنت طالباً في جامعة دمشق في مادّة الثقافة القوميّة الاشتراكيّة ليس لكونها صعبة بل لعدم اهتمامي بها (كما كان حالي في التربية الدينيّة في الثانويّة العامّة التي لا تؤثّر على المجموع ولا على حظوظ القبول إلى الكلّيات). كنت ولا زلت أعتقد أنّه لا يوجد مبرّر لإقحام السياسة (ولا الدين) في مناهج المدارس المهنيّة ولكن ما علينا. كان المأسوف عليه والدي قوميّاً سوريّاً وإن توقّف نشاطه السياسي أو كاد بعد أن أمضى فترة فصيرة في السجن في منتصف الخمسينات في أعقاب اغتيال العقيد عدنان المالكي. من نافل القول أنّ أبي كان مسؤولاً شابّاً وصغيراً من ناحية المرتبة في الحزب القومي وقتها ولم يكن يعرف المالكي ولم تكن له علاقة باغتياله لا من قريب ولا من بعيد.
يتناول المؤلّف السيّد Olivier Carré في هذا البحث حزب البعث كفكر ولا يتعرّض للصراع السياسي على السلطة إلّا ضمن حدود لا بدّ منها لفهم الخطّ العامّ. كتب الكثير عن مؤسّسي حزب البعث وجميعهم من خرّيجي السوربون في فرنسا: ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وزكي الأرسوزي. هناك خلاف عن دور الأرسوزي في البدايات وعن الخلافات الفكريّة بينه وبين عفلق والبيطار وإن جمع بينهم الكثير خاصّة إيمانهم بالعروبة وعلمانيّتهم بالقدر الذي سمحت فيه ظروف سوريا بالعلمانيّة. فاوض الدكتور وهيب الغانم عمليّة اندماج جناح عفلق-البيطار مع جناح الأرسوزي عام ١٩٤٧.
باختصار شديد تمّ حلّ الأحزاب السوريّة عام ١٩٥٨ عندما تحقّقت الوحدة المصريّة السوريّة وتلى هذا تشكّل اللجنة العسكريّة سرّاً في مصر من مجموعة من الضبّاط السورييّن بينهم حافظ الأسد وصلاح جديد وكانت هذه اللجنة أقرب فكريّاً إلى الأرسوزي منها إلى عفلق والبيطار وهنا تجدر الإشارة أنّ ضبّاط هذه اللجنة كانوا شباباً ينتمون إلى جيل لاحق للضّباط البعثييّن الاشتراكييّن في الخمسينات أي جماعة أكرم الحوراني. أيّد البيطار والحوراني الانفصال عاو ١٩٦١ وكان لهذا التأييد تبعات إذ طرد الحوراني من الحزب في حزيران عام ١٩٦٢ أمّا عفلق والبيطار فقد انتهيا في سوريا مع سقوط أمين الحافظ في شباط عام ١٩٦٦ وطردا من الحزب وسوريا لينتهي المطاف بالأوّل في العراق والثاني في فرنسا حيث اغتيل في تمّوز ١٩٨٠. تبنّى البعث الجديد (أي بعد عام ١٩٦٦) الأرسوزي كأب روحي وسميّت مدرسة للفتيات في دمشق على اسمه في الوقت الذي تبرّأت فيه الحكومات السوريّة المتعاقبة في الخمسين سنة الأخيرة من تركة عفلق والبيطار أو كادت.
بيت القصيد هنا فكر البعث كما عرّفه دستور عام ١٩٤٧ وتمّ تعديله في المنطلقات النظريّة التي تمخّضت عن المؤتمر القومي السادس في تشرين أوّل ١٩٦٣. لا يوجد تناقض جوهري بين هذه المنطلقات كما كتبها ياسين الحافظ الذي تأثّر بالفكر الماركسي إلى درجة لا بأس بها وبين الدستور الأصلي. الفرق الأساسي هو تعريف الديموقراطيّة: هل هي دستوريّة؟ أم هي "شعبيّة"؟ الديموقراطيّة الشعبيّة تعني حسب المنطلقات سيطرة الطبقات الكادحة التي يمثّلها الحزب وتشمل "الاشتراكيّة العلميّة" مع خططها الخمسيّة والتأميم و"رأسماليّة الدولة".
عودة على بدء تبنّى البعث علم "الثورة العربيّة الكبرى" واتّشح بعباءة العروبة والإسلام كما فهمهما. ادّعى الأرسوزي أنّ أوّل لغة للبشر هي العربيّة أمّا عفلق فقال أنّ العروبة هي الجسم والإسلام هو الروح وهنا ميّز بين الإسلام كدين والإسلام كثقافة عربيّة وطنيّة وقوميّة أمّا عن الأقليّات كالبربر والتركمان إلخ فقد ارتأى عفلق أنّ "الاشتراكيّة العربيّة" كفيلة بحلّ مشاكلهم أو بالأحرى إشكاليات اندماجهم في "الأمّة العربيّة".
عرّف دستور الحزب العربي كمن يتكلّم العربيّة ويحيا على الأرض العربيّة أو يتطلّع للحياة فيها والمقتنع بانتمائه إلى الأمّة العربيّة. البعث يؤمن بالثورة وينظر شزراً إلى التطوّر. الزواج "واجب قومي" وهناك تشجيع على التناسل. البداوة "حالة تخلّف" ويتعيّن على الدولة مكافحة القبليّة. التعليم مهمّة الدولة ويجب إلغاء المؤسّسات التعليميّة الأجنبيّة والخاصّة. التعليم إلزامي ومجّاني وكذلك الحال بالنسبة للطبابة. العمل واجب وطني وعلى الدولة تأمينه وضمانه لكلّ قادر عليه وراغب فيه. مكافحة البيروقراطيّة واجبة وهلمّجرّا.
كلام معقول رغم العديد من التحفّظات وبقي أن تثبت السنوات التالية مبلغ نجاح الحزب في تطبيقه على أرض الواقع.
No comments:
Post a Comment