غطّت مخطوطة "حوادث دمشق" لشهاب الدين أحمد بن بدير الحلّاق الفترة بين ١٧٤١ و ١٧٦٢ كما رأينا. تربّع إثنان من آل العظم على ولاية دمشق وقتها الأوّل سليمان باشا (١٧٤١-١٧٤٣) والثاني ابن أخيه أسعد باشا (١٧٤٣-١٧٥٧) أشهر ولاة هذه الأسرة وباني القصر والخان جنوب الجامع الأموي. شهدت بدايات ولاية أسعد باشا نزاعاً على السلطة بينه وبين فتحي أفندي الفلاقنسي الدفتردار أو الدفتري انتهت بمصرع هذا الأخير عام ١٧٤٦ عندما هاجم أسعد باشا معقله في حيّ الميدان. تعرّض ابن بدير لهذه الحوادث ولكنّها أهميّتها بالنسبة له كانت بالدرحة الأولى الضرر الذي ألحقته بالناس العادييّن وغلاء المعيشة وفساد الأخلاق وجور الأقوياء.
تركيز الحلّاق كان على الفوضى وكتاباته الأصليّة -على عكس النصّ المنقّح والمعدّل الذي نقله القاسمي- لم تكن شديدة التبجيل لآل العظم خصوصاً والإمبراطوريّة العثمانيّة عموماً. تتكرّر في ابن بدير الإشارة إلى أسعار السلع الغذائيّة وهو يهدف عندما يذكر عمليّة بناء فصر العظم وتحويل المياه إليه إلى إظهار جشع أسعد باشا وتبذيره وحبّه للتظاهر. رواية ابن بدير تسلّط الأضواء على عامّة الناس ومن الواضح أنّ الرجل محافظ رغم غنى أسطره بالفضائح الجنسيّة وغير الجنسيّة فهو على سبيل المثال يدين ما رآه من تصرّفات النساء اللواتي يشربن القهوة ويمارسن التدخين علناً ولا يتردّد في استعمال كلمات عاميّة مبتذلة يربأ العلماء الذين يزدرون المقاهي ولغتها عموماً عن استعمالها (وهي بالطبع أقلّ من عاديّة مقارنة مع القصص الساخنة في "ألف ليلة وليلة") وإن كان هذا دوماً عندما يندب انحطاط الأخلاق بغية شجب الفسق والفجور والمجون وليس بغرض التسلية. على سبيل المثال:
رواية انتحار حسن ابن الشيخ يوسف الرفاعي:
"فذهب إلى جامع الدقّاق وصلّى الصبح مع الإمام وصلّى على نفسه صلاة الموت وصعد المنارة ونادى يا أمّة الإسلام الموت أهون من التعريص مع دولة هذا الأيّام ثمّ أرمى نفسه رحمه الله وعفى عنه".
وأيضاً قصّة احتفال مجموعة من البغايا يشفاء عشيق لإحداهنّ:
"وممّا اتّفق في دولة أسعد باشا العظم أنّ واحدة من بنات الهوى قد عشقت غلام من أبناء الترك فمرض فنذرت عليها ان تعافى تقرأ له المولد عند الشيخ أرسلان. وبعد أيّام تعافى فجمعت شلكّات البلد وحطّت شمع وقناديل ومباخر ومشت في أسواق البلد ودارو بالقناديل والغناء والصفق والكفوف والدقّ بالدفوف والعالم وقوف وصفوف وسارو وهم مكشوفات الوجوه مدلّعات الشعور مدهونات الوجوه والناس تنظر لذلك".
هناك أيضاً قصّة مسرح خيال الظلّ (كراكوز):
"وكان حاضر بالجمع رجل نصراني وكيل البطرك يقال له ابن توما فأطلقو له السراح فعمل عمايل موهومة ولعب خيال أنوار وعمل واحد بصفة ابن توما وكان غليظ طويل وعمل واحد صفة يهودي وجعل اليهودي ينيك إلى ابن توما النصراني في داخل الجمع والمحفل وكلّ منهم إلى ذلك الأمر ينظر ويبصر وقد فعلو أفعال لا تفعلها الجهّال".
ابن بدير إذاً راوية من الدرجة الأولى واهتمامه يتصبّ على الأحداث الجارية وليس التاريخ ومعاناة الناس العاديين همّه الأوّل وإن لم يفته ذكر احتفالات فتحي الدفتري الباذخة بزفاف ابنته والأبّهة التي رافقت ختان أحد أولاد سليمان باشا العظم.
بقي علينا التعرّض لرواية الحلّاق كما غربلها القاسمي.
No comments:
Post a Comment