من العبث إنكار مجزرة ١٨٦٠ أو ما يدعى "بطوشة النصارى" في دمشق إذ أنّها حصلت في عهد التصوير الفوتوغرافي والصحافة المطبوعة وتدخّل أوروبا في شؤون الإمبراطوريّة العثمانيّة في زمن كان أهمّ أسباب بقاء هذه الأخيرة تنازع القوى الغربيّة بعضها مع البعض الآخر. كلّ ما يمكن عمله لمن يرفض تسمية الأمور بمسمّياتها أن يعمد للتفسير والتأويل ولوم الغرب والاستعمار وحتّى اليهود إذا لزم الأمر في محاولة بائسة لتبرير ما لا يمكن تبريره لا منطقيّاً ولا أخلاقيّاً.
بيت القصيد هنا أنّ هذه المذبحة لم تكن أوّل فتنة طائفيّة تشهدها المدينة وأنّه سبقها في أواخر العقد الثالث للقرن الثاني عشر الميلادي مذبحة تضاهيها أن لم تكن تقوقها وحشيّة واتّساعاً كما سنرى.
من البدهي أنّ الوجود الفاطمي في دمشق لفترة تجاوزت القرن لا بدّ وأن يخلّف عدداً لا بأس به من معتنقي المذهب الإسماعيلي في المدينة. باختصار شديد مؤسّس السلالة الفاطمية شخص يدعى عبيد الله المهدي من السلميّة في سوريا ولكنّ بدايات هذه الدولة كانت في شمال غرب إفريقيا قبل أن تمتدّ إلى مصر في عهد المعزّ لدين الله وعامله جوهر الصقلي بناة القاهرة. جرى نزاع على الخلافة بعد موت المستنصر بالله بين المستعلي وأخيه الأكبر نزار. خسر هذا الأخير وهرب إلى الإسكندريّة ثمّ قتل عام ١٠٩٥ وانشقّ الإسماعيليّون بعدهذه الأحداث إلى حزبين: الأوّل فاطميّو مصر (ومنها إلى الهند واليمن) والثاني النزاريّون (إلى إيران وسوريا) ومنهم من عرفوا بعدها بالحشّاشين.
يبدوا أنّ المؤرّخ الدمشقي إبن القلانسي على غزير علمه وحصافة عقله لم يجد قاسماً مشتركاً بين الفاطمييّن في مصر (والذين كال لهم الثناء بحساب ودون حساب) والإسماعيلييّن في سوريا والذين أطلق عليهم لقب الباطنيّة وكتب عنهم بسلبيّة إلى أبعد الحدود.
فلنستعرض بعد هذه المقدّمة الطويلة ما جرى عام ١١٢٩ في عهد تاج الملوك بوري. يبدأ إبن القلانسي باستعراض خلفيّة الفتنة فيخبرنا أنّ داعية الباطنيّة بهرام نجح في غواية العديد من أبناء الأقاليم الجهلة وحثالة الفلّاحين واللصوص من عديمي الضمائر الذين لا يخافون الله ولا يردهم وازع عن الشرّ والأذى ويضيف أنّ عقيدتهم السريّة ظهرت بكلّ نقائصها في وضح النهار عندما مارسوا العنف وقطع الطرقات والظلم وساعدهم في مخطّطاتهم الوزير أبو طاهر المزدقاني. عيل بالنتيجة صير تاج الملوك وعزم على التخلّص من الباطنيّة "أعداء الله" مرّة وإلى الأبد وبالنتيجة قتل بهرام وانتقلت الزعامة بعده للمدعو إسماعيل الفارسي الذي تعاون معه المزدقاني إلى أن قطعت رأس هذا الأخير ومزّق جسده بالسيوف وأحرقت جثّته جزاءً وفاقاً على شروره وآثامه. يرفق ابن القلانسي مع سرده استشهاداً بالآيات القرآنيّة التي تسوّغ -في نظره- كلّ ما جرى كعقاب ربّاني حقّ على المفسدين في الأرض.
أذيع خبر ذبح المزدقاني في دمشق وكانت هذه بمثابة إشارة للأحداث والرعاع للانتشار في المدينة كالنار في الهشيم مسلّحين بالسيوف والخناجر وقتل كلّ من صادفوه من الباطنيّة ومشايعيهم بما فيهم من طلب الأمان ورغم محاولة البعض التشفّع لهم ومع حلول الصباح تمّ تنظيف الأزقّة والساحات من جثثهم التي تنازعتها الكلاب وكلّ هذا طبعاًَ "عبرة لذوي الألباب".
لا يورد القلانسي أرقاماً على الأقلّ في المخطوط الذي ترجمه Le Tourneau وتتفاوت الأرقام حسب المصدر من ستّة آلاف ضحيّة (إبن الأثير) إلى عشرة آلاف (سبط إبن الجوزي) وحتّى تصل بعض التقديرات إلى عشرين ألفاً وعلّ هذه الأرقام مبالغ بها ولكن لا خلاف على حصول المجزرة ولا على هويّة ضحاياها وممّا يزيد من مصداقيّة الرواة أنّهم دون استثناء من أعداء الإسماعيلييّن وأنّهم يفتقدون إلى الحدّ الأدنى من الشعور بالذنب أو الشين لا بل هم يفخرون بالقضاء على الباطنيّة كما يفخر العبّاسيون بإبادة الأموييّن وهناك كثير من الأمثلة المشابهة لمن يريد التوسّع.
يدّعي البعض (إبن الأثير) في محاولة لتسويغ المذبحة أنّ المزدقاني اتّفق مع الباطنيّة على تسليم دمشق للصليبييّن ولكنّ إبن القلانسي صامت عن هذا الموضوع على الأقلّ قبل المذبحة لا بل ويضيف كمسك الختام أنّ إسماعيل الفارسي مات لاحقاً في بانياس وتخلّصت المنطقة من "الباطنيّة ونجسهم". في كلّ الأحوال حتّى إذا سلّمنا أنّ بعض الإسماعلييّن تعاون مع الصليبييّن فلا يمكن أن يبرّر هذا ذبح جميع الإسماعيلييّن ولا يعقل أنّ الآلاف منهم تعاونوا مع الصليبييّن.
من نافل القول أنّ التعصّب الديني في العصور الوسطى لم يكن وقفاً على دمشق ولا سوريا ولا أي بلد إسلامي. تاريخ أوروبا مفعم بالمجازر والفتن الدينيّة ولربّما كان سجلّ العالم الإسلامي في الماضي أفضل من نظيره المسيحي. الفرق أنّ العرب اليوم -مقارنة مع الغرب العلماني- يتّبعون إحدى سياستين في الأمور المتعلّقة بما لا يشرّف في ماضيهم: الأولى إلقاء اللوم على الغير (مجزرة ١٨٦٠) والثانية تجاهل الموضوع بالكليّة كما في مأساة ١١٢٩.