عيّن الباب العالي أحمد جمال باشا (١٨٧٢-١٩٢٢) حاكماً مطلق الصلاحيات في بلاد الشام في فترة خاضت فيها الإمبراطوريّة العثمانيّة آخر صراع على وجودها انتهى بخسارتها الحرب العظمى وتقسيم أقاليمها المترامية الأطراف بين الحلفاء الظافرين. نعت جمال باشا منذ ذلك الوقت بالسّفاح وهذا اللقب ليس بالضرورة سلبيّاً لدى الجميع إذا أخذنا بعين الاعتبار مثال أبي العبّاس في منتصف القرن الثامن للميلاد وليس البرّ والخير والإحسان من سمات بناة الإمبراطوريّات عموماً. في كلّ الأحوال "عندما تقع البقرة بيكترو دبّاحينها" وهناك ما يدعو للاعتقاد بأنّه لو كتب للعثمانييّن النصر لكانت سيرة جمال باشا عطرة كأحد الروّاد في تحديث وتجميل دمشق على غرار ناظم باشا ومدحت باشا واربّما حتّى أسعد باشا العظم ويمكن هنا تشبيهه بآخر نوّاب دمشق المملوكيّة الأمير سبياي الذي ترك لنا المدرسة السيبائيّة (أو جامع الخرّاطين أو جامع الجوامع) قبل أن يقضي نحبه مع سيّده قانصوه الغوري عام ١٥١٦ في مواجهة يائسة لدى مرج دابق ضدّ جيش سليم الأوّل الانكشاري الرهيب ودولة عثمانيّة صاعدة في عنفوان شبابها وقوّتها.
باختصار ولع جمال باشا بالتخطيط العمراني وقام باستدعاء خبير سويسري Max Zürcher بهدف وضع مخطّطات تفصيليّة تعبّر عن عظمة الطموحات العثمانيّة في دمشق أدّت بالنتيجة إلى شقّ شارع عريض بطول ٦٥٠ متر يصل بين باب النصر شرقاً (تواجد في موقع يوافق البداية الغربيّة لسوق الحميديّة وهدم في القرن التاسع عشر قبل أن يجشّم أحد نفسه عناء تصويره أو حتّى رسمه) ومحطّة الحجاز غرباً. شكّل هذا الشارع محوراً شيّدت المباني الرسميّة على طرفيه وكان مثاليّاً للعروض العسكريّة والاستعراضات ويمكن دون مبالغة القول أنّه في عزّه (أي قبل الإجهاز على الجزيرة المشجّرة التي نصّفته) كان أقرب للمنتزه منه إلى الشارع المختنق بازدحام السير ودخان العربات الذي نعرفه اليوم.
شقّ هذا الشريان الحيوي في دمشق الحديثة المتوسّعة أبداً باتّجاه الغرب بين الأعوام ١٩١٥-١٩١٦ وأشرف عليه المهندس Wilbuschewitsch. حلّ شارع جمال باشا (النصر في عهد الاستقلال) محلّ درب المرج خلال البساتين (حكر السمّاق) الذي تواجدت عليه وقتها أبنية قديمة كالمشيريّة وملحقاتها (موقع قصر العدل حاليّاً) وجامع تنكز المملوكي وغيرها. استلزم تعريض الشارع هدم أو تعديل عدد من المنشئات ومنها سوق القميلة وجوامع عيسى باشا ولطفي باشا وسيدي خليل.
التقطت الصورة الملحقة (عن Sack) منذ حوالي أربعين عاماً وهي تظهر بناء الصيدلي صبحي الساطي المشيّد عام ١٩٣٤ (مع الشكر للأساتذة نبهان زادة وبدر الزعبي والدكتور عبد الرزّاق معاذ) والملاصق لقصر العدل (بني ١٩٤٧-١٩٤٨) من جهة الغرب.
Ross Burns. Damascus: A History. Routledge 2005.
Dorothée Sack. Damaskus. Entwicklung und Struktur einer orientalisch-islamischen Stadt. von Zabern, Mainz 1989.
Stefan Weber. Ottoman Modernity and Urban Transformation 1808-1918. Proceedings of the Danish Institute in Damascus V 2009.
No comments:
Post a Comment