Tuesday, July 4, 2017

دمشق ١٨٤٠ وقصّة فطير صهيون



تفوق قوانين ما يحّل (كشروت أو كوشر) وما يحرم أكله من الطعام في الشرع اليهودي نظيرَتَها في الإسلام صرامةً وتزمّتاً، وعلّها ألهمت تحريم أكل لحم الخنزير لدى المسلمين؛ كلّ من لديه إلمام شبه معقول بالنصوص التوراتيّة يعرف أنّ تناول الدم من الكبائر (تكوين الإصحاح التاسع، الآية الرابعة)، ناهيك عن القرابين البشريّة التي انتهت مع قصّة إبراهيم عندما حاول تضحية إسحق (أو إسماعيل حسب المصدر)، تلبيةً لأمرِ رَبِّهِ. إذا كان الأمر كذلك، فما مصدر رواية الدم البشري المزعوم الذي يستعمله اليهود لخبز فطيرِهِم؟

أصل التهمة من أوروپّا المسيحيّة قديماً، وعلّ ما سهّل تصديقَهَا القدّاس المسيحي الذي يتحوّل فيه القربان Eucharist أو الخبز والنبيذ (فعليّاً أو مجازيّاً حسب المذهب)، إلى لحمِ المسيح ودمِهِ، أو ما يسمّى الاستحالة Transubstantiation، ممّا سمح للبعض من ذوي الخيال الخصب، أن يتخيّل تحريفاً شيطانيّاً لهذه الطقوس من قبل "قَتَلَة المسيح". في كلّ الأحوال مسرح أحداث قصّتنا ليس في الغرب وإنّما في دمشق القرن التاسع عشر.

_________________________________________________________

أبدأ كالعادة بتعريف سريع للكتاب "تشهير الدم" الصادر باللغة الإنجليزيّة عام ٢٠٠٤ عن University of Wisconsin Press بطول حوالي ٢٦٠ صفحة، وللكاتب Ronald Florence، مؤرّخ وروائي من مواليد ١٩٤٢. مسرح الأحداث دمشق، التي كانت آنذاك عاصمةً إقليميّة في إمبراطوريّة حاكم مصر محمّد علي باشا الحديثة العهد، تحت ولاية ابنه بالتبنّي الألبانيّ المولد شريف باشا، ووصاية إبراهيم باشا أكبر أبناء محمّد علي وقاهر الوهّابييّن وحتى العثمانييّن في أكثر من موقعة. من المعروف أنّ إبراهيم باشا حسّن وضع الأقليّات في سوريا وخصوصاً المسيحييّن إلى درجةٍ كبيرة، ولربّما كان ذلك إلى حدٍّ ما على حساب اليهود، بدلالة صعود نجم حنّا بحري بك، ليحتلّ الدور الذي شَغَلَهُ سابقاً حاييم ورافائيل فارحي.

________________________________________________________

بدأت الملحمة في ٦ شباط عام ١٨٤٠، عندما تخلّف الأب توما الكبّوشي المشهور بدقّة مواعيدِهِ عن حضورِ مأدبة عشاءٍ في الحيّ المسيحي، أمرٌ جللٌ إذا أخذنا بعين الإعتبار أنّ Padre Tomasso السرديني المولد، كان معروفاً لجميع الدمشقييّن ليس فقط كرجل دين وإنّما كصيدلاني طبّب ولقّح العديد من أهل المدينة التي أقام في ربوعِها - دير الكبوشييّن - لمدّة ٣٢ سنة، واشتهر بتجواله في قراها المحيطة مع تابعه إبراهيم أمارة، بهدف مساعدة المحتاجين.

لم يسفر البحث في الحيّ المسيحي عن نتيجة، وسَرَت شائعاتٌ في أزقّة المدينة أنّ الأب توما وتابِعَهُ، شُوهِدَا على قيد الحياة آخر مرّة في اليوم السابق لاختفائه في الحيّ اليهودي. لجأ المعنيّون بالأمر إلى القنصل الفرنسي Comte de Ratti-Menton، على اعتبار أنّ فرنسا حامية المسيحييّن، الكاثوليك خصوصاً، في الشرق الأدنى بموجب اتفاقيّات بينها وبين القسطنطينيّة بدايةً من القرن السادس عشر، ما يسمّى Capitulations أو الامتيازات الأجنبيّة.

ما كان لقنصل فرنسا أن يتجاهل نداء الدم في الحيّ المسيحي: "اليهود ضحّوا بالأب توما". باشر Ratti-Menton على التوّ "التحقيق" في سَكَن المغدور على شارع الدير، مستعيناً بشرطة الوالي التي فتّشت البيوت اليهوديّة وذهبت إلى حدّ نبش بعض القبور الحديثة في مقبرة الطائفة دون جدوى. تمثّلت الخطوة التالية باستجواب "الشهود والمشبوهين"، بيد أنّ أسلوبَ Ratti-Menton "الحضاري"، المتاثّر بقيم "التنوير"، لم ينجح بانتزاع الاعترافات المطلوبة لا كثيراً ولا قليلاً، ممّا اضطرّه إلى اللجوء لإحالتهم إلى الوالي لاستعمال وسائل "أكثر إقناعاً": الفلقة، والكرباج، وعصر الأعضاء التناسليّة، والخنق إذا اقتضى الأمر.

بدأ التحقيق بالناس العادييّن، وكان مصير "شهود النفي" الموت تحت التعذيب، ومن هؤلاء إسحق يافو بائع التبغ الذي أدلى بإفادةٍ خلاصَتُها أنّهُ شاهدَ الأب توما وإبراهيم أمارة للمرّة الأخيرة عندما غادرا المدينة باتّجاه الصالحيّة، وبالتالي بعيداً عن الحيّ اليهودي، بينما أكّد "شهود الإثبات" مثل سلمون الحلّاق - تحت التعذيب أيضاً - أنّ اليهود خطفوا الأب توما وذبحوه.

قرّر الوالي والقنصل الفرنسي، بعد هذه المقدِّمة، أنّ لديهِما ما يكفي من "الأدلّة" للشروع باستنطاق وجهاء اليهود. عجزت جهود الجالية اليائسة عن درء البليّة، ومنها رصد مكافأة ماليّة لمن يدلي بمعلومات عن اختفاء الأب توما، ومحاولة أحدهم - شحادة لزبونة - أن يرشي أحد أعوان القنصل الفرنسي الذي استشرف وكأنّه لم ير أو يسمع برشوةٍ في حياتِهِ.

تفاوت "نجاح الاستجواب" بتفاوت الأشخاص، وعلى سبيل المثال:

- يوسف هراري ويوسف لنيادو هلكا تحت التعذيب.

- مائير فارحي قال للباشا عندما استجوبه هذا الأخير: "إذا كنت تريد الحقيقة يا صاحب الفخامة فلا أنا ولا أيّ من المتّهمين نعرف أي شيء عن هذه الجريمة، أمّا إذا كان هدفُكَ أن تنتزع منّا اعترافاً فقل لي ما هو الاعتراف المطلوب، وسأقرّ به ولا داعي للتعذيب". أجبر الباشا فارحي - بعد اعترافِهِ طبعاً - على دفع المكافأة المخصصّة للقبض على الجاني، أي على نَفْسِهِ.

- الحاخام موسى أبو العافية اعتنق الإسلام تحت التعذيب، واتخذ إسماً جديداً "محمّد أفندي"، ليتطوّع بعدَها بتحديد النصوص التلموديّة التي أباحت لليهود قتل الأغيار. أكّد أبو العافية أنّ الحاخامات يمزجون دقيق القمح مع الدم بأيديهم.

لم ينجح الادّعاء بالنتيجة فقط بتجريم المتّهمين، بل أيضاً في "العثور" على بقايا عظام المغدورين التي دُفِنَت في دير الكبوشييّن، قبل أن يُنْقَل شاهدُ قَبْرِها عام ١٨٦٦ إلى كنيسة اللاتين أو الفرنسيسكان عند زاوية تقاطع شارع باب توما مع شارع الدير. كُتِبَ على هذا الشاهد بالعربيّة والإيطاليّة العبارات الآتية:

زُر تربةَ الأب توما الكبّوشي واندب مقامَه
مُرسَل رسولي لشام يعظ ويبدي اهتمامَه
قد ذبحوه يهودا ولم تَجِدْهُ بتمامِه
في خامس أسباط أُرّخ هذه بقايا عظامِه
سنة ١٨٤٠


أثارت القضيّةُ استياء وسخط بعض الأوروپيّين، ممّا دَفَعَ الفرنسي Adolphe Crémieux، والبريطاني Moses Haim Montefiore (كلاهما يهوديّان)، إلى القيامِ برحلة إلى الشرق الأدنى في محاولةٍ منهما لإنقاذ سمعة ومكانة يهود دمشق. نجح المذكوران في الحصول على مقابلة مع محمّد علي، الذي أمر بإخلاء سبيل المعتقلين وإبطال أمر توقيف الفارّين. أمّ Montefiore بعدها القسطنطينيّة، واجتمع في ٢٨ تشرين أوّل مع السلطان عبد المجيد، الذي أبرمَ فرماناً أكّد فيه براءةَ اليهود، ووصفَ التهمَ ضِدَّهم بوشاياتٍ لا أساس لها من الصحّة. رافقت حشودٌ من اليهودِ والمسلمين المساجينَ بعد تحريرهم، واتّجَهَ هؤلاء إثر ذلك إلى كُنُسِهِم ليشكروا ربَّهم على نعمتِهِ، ويستمطروا بركَتَهُ على محمّد علي، ويدعوا للباشا الذي فضّل عليهّم بعدله وإنسانيّته. لم يتخلّف أعيان المسيحييّن في دمشق عن اللحاق بالركب، وقاموا بدورِهِم بتهنئة اليهود المُحَرَّرين وإن شكّكَ البعضُ بصدقِهِم.

عاصَرَت هذهِ الأحداث نهايةَ حكم أسرة محمّد علي في بلاد الشام، وتنازُلَ حاكم مصر في أواخر تشرين الثاني عام ١٨٤٠ عن سوريّا التي عادت إلى كنف الإمبراطوريّة العثمانيّة. لم تمُت القضيّة بموت أبطالِها وأشرارِها، وكثير منّا مَن سمعَ بكتاب العماد الراحل مصطفى طلاس "فطير صهيون"، الصادر عام ١٩٨٦. حاول وزير الدفاع السوري السابق تقديمَ دراسَتِهِ أطروحةً لجامعة Sorbonne الفرنسيّة لنَيلِ شهادة دكتوراه. فشِل المسعى بالطبع وإن لم يمنع رواجَ هذا العمل، أو على الأقلّ الأفكار التي استقى منها، في العالم العربي.

3 comments:

  1. هل تقصد العام ١٨٤٠ في آخر فقرة من المقال اعلاه؟

    ReplyDelete
    Replies
    1. نعم سيّدي أو سيّدتي. جرى التصحيح وشكراً

      Delete
  2. وهل كان السبب هو من أجل الفطيرة فعلا .الامر يبدو غريبا .

    ReplyDelete