Wednesday, July 5, 2017

سياسات الريف السوري

علّ هذه الدراسة الصادرة عام 1999 عن Princeton University Press أفضل المتوافر عن الموضوع قيد البحث بل لعلّها فريدة ليس فقط في الطريقة التي تتناول بها سياسات الريف السوري وإقتصاده السياسي وإنما أيضاً بعمقها وإسنادها ومداها. 

المؤلّف حنّا بطاطو 1926-2000 أمريكي فلسطيني من مواليد القدس وشيوعيّ الميول وقد هاجر إلى الولايات المتّحدة عام 1948 والكتاب حوالي 400 صفحة شديدة الغنى بالمعلومات القيّمة عن سوريا حتى تسعينات القرن الماضي.  


من الناحية الديموغرافيّة ودون التعرّض للأسباب تزايد عدد سكّان سوريا ضمن حدودها الحاليّة من 1.5 مليون نسمة عام 1922 إلى 13.8 مليون عام 1994 وتزامن هذا مع تناقص في نسبة العاملين في القطاع الزراعي بكّل ما يعنيه هذا وذاك من تحدّيات تأمين الغذاء والكساء والبنية التحتيّة للمواطنين. قدّرت نسبة النموّ الديموغرافي بحوالي 3.3% بين الأعوام 1970-1991 ونجم عن هذا أنّ نسبة الشباب دون عمر 15 قاربت 45% عام 1994. 

ليس كلّ الفلّاحين سواء وهذا ما يتعرّض له الفصل الثاني. هناك فلّاحو البساتين (غوطة دمشق أفضل ممثّل لهذه الفئة وهم يتميّزون بمهارتهم وتديّنهم وعلاقاتهم الوثيقة مع أهل المدن) وهناك الفلّاحين الزراعييّن في وادي الفرات وحوران وسهل الغاب (معظم فلّاحي هذا الأخير من العلوييّن). يمكن أيضاً تقسيم الفلاحين إلى مسالمين (الغوطة، حوران، إدلب، العلوييّن في السهول) و"الحربجيّة" (الدروز) كما يمكن تقسيمهم حسب الطوائف الدينيّة والمذهبيّة، حسب العشائر، وما إذا كانوا ملّاكاً للأرض التي يفلحونها أو يعملون لحساب الملّاك والمستثمرين من أهل المدن. يترتّب على ذلك أنّ المستوى المعيشي يتفاوت كثيراً بين فلّاح وفلّاح وبين منطقة ومنطقة فبالنسبة للذين لا يملكون الأرض tenants أو sharecroppers نرى أنّ فلّاح الغوطة يمكن أن يحصل على ثلثيّ المحصول بينما لا تتجاوز حصّة فلّاح حوران الربع. كلّ هذا قبل الإصلاح الزراعي. 

كانت الأرض عبر التاريخ  ولربّما لا زالت مصدر الثروة الأهمّ في سوريا وأدّى هذا بالطبع إلى تناقض بين مصالح الدولة التي تريد المزيد من الضرائب لنفقاتها المشروعة وغير المشروعة وبين مصالح الفلّاحين و لجأ هؤلاء خلال العهد العثماني إلى اتّباع وسائل مختلفة لإنقاذ القليل الذي يملكونه فبالنسبة لفلّاحي السهول المكشوفة أمام القوّات الحكوميّة كان الحلّ إخفاء محاصيلهم والتهرّب من الخدمة الإلزاميّة بشتّى الطرق أمّا عن فلّاحي الجبال فكانوا أقلّ تردّداً في اللجوء إلى العصيان المسلّح من معاقلهم المنيعة أو شبه المنيعة واستمرّ هذا حتّى زمن الإنتداب الفرنسي وهنا تجدر الإشارة أنّ ثورة (أو عصيان حسب المصدر) 1925 بدأت قي جبل الدروز. من الصحيح أنها امتدّت إلى غوطة دمشق ولكن العديد من القرى رفضت المشاركة بل وناشدت الثوّار أن يغادروها خوفاً من إنتقام الفرنسييّن. 

يعود الفضل لأكرم الحوراني في تنظيم أوّل حزب يتبنّى قضيّة الفلّاحين في سوريا ألا وهو الحزب العربي الإشتراكي الذي ركّز نشاطاته في البداية في ريف حماة واعتنق شعار "هاتو القفّة والكريك لنعش الآغا والبيك" وازداد نفوذه عندما نجح بإقناع العديد من شباب الأرياف بدخول الكليّة الحربيّة في حمص وتعاظم هذا النفوذ عندا تمّ دمج حزب الحوراني مع حزب البعث في تشرين الثاني عام 1952 تحت إسم حزب البعث العربي الإشتراكي

يمكن للتبسيط أن نميّز ثلاث مراحل في تاريخ البعث:

- المرحلة الأولى هي "البعث القديم" الذي أسّسه دمشقيّان من حيّ الميدان: ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار. سيطر المثقّفون على الحزب في هذه الفترة: عفلق والبيطار درسا في فرنسا في جامعة Sorbonne وكلاهما أبناء تجّار الحبوب بالجملة، وهيب الغانم كان طبيباً، زكي الأرسوزي (مؤسّس "البعث العربي" المحسوب بشكل أو بآخر على البعث) كان أيضاً خرّيج السوربون. المشكلة بالطبع أنّ المثقفّين لا ولم ولن يحكموا سوريا في حياتهم (وليست سوريا بالتأكيد فريدة في هذا المضمار)  دون إيجاد صيغة تفاهم مع ضبّاط الجيش المتنفّذين ومن هنا أهميّة حلف البعث مع جماعة الحوراني بغضّ النظر عن الخلافات الشخصيّة والعقائديّة. 

- المرحلة الثانية هي مرحلة "البعث الإنتقالي" عندما جرى "ترييف" ruralization الحزب الذي أزاح فيه الضبّاط من أبناء الأرياف المفكّرين من الرعيل الأوّل من الحزب وأزاحوا في نفس الوقت أبناء المدن من مناصبهم المفتاحيّة في الجيش وبالنتيجة -إلى حدّ ما- من مؤسّسات الدولة الإداريّة. شغلت هذه المرحلة بالطبع عقد الستّينات وجرى فيها صراع على السلطة وتصفية بعض الضبّاط  لبعضهم الآخر ولا داعي هنا للدخول في تفاصيل هذا الصراع بين أمين الحافظ وصلاح جديد وسليم حاطوم ومحّمد عمران وعبد الكريم الجندي وكثير غيرهم فهذا مغطّى بشكل أكثر من واف في كتابات الأكاديمي Nikolaos van Dam والصحافي الشهير الراحل Patrick Seale.

- المرحلة الثالثة هي بالطبع عهد الرئيس حافظ الأسد بداية من عام 1970 والتي شهدت تحوّل البعث من حزب بالمعنى المفهوم إلى جهاز بيروقراطي تابع للدولة وإلى زيادة عضويّته من 65،000 عام 1971 إلى مليون ونيف عام 1992 ويشمل هذا بالطبع الأنصار والأعضاء العاملين. 

ماذا عن الريف؟
لا يمكن إنكار أن عهد البعث له إيجابياته خصوصاً فيما يتعلّق بمدّ الكهرباء إذ ازداد عدد القرى التي أنارها التيّار الكهربائي من 218 عام 1970 إلى 7،630 عام 1992 أي 95% من القرى السوريّة كما انتشرت شبكات المياه النظيفة وطبابة الأرياف ووسائل المواصلات والمؤسّسات التعليميّة كما زاد الإنتاج الزراعي في محاولة لتحقيق الإكتفاء الغذائي الذاتي ويبقى هناك الكثير من التحديات الناجمة عن الإنفجار السكاني وتوسّع الفروقات بين الأغنياء والفقراء والصراعات الإقليميّة والدوليّة. 

No comments:

Post a Comment