كَتَبَ المؤرّخ اليوناني Thucydides (القرن الخامس قبل الميلاد) العبارة التالية التي أصبحت مَضْرِباً للمثل:
"تُطْرَحُ مسألة العدالة فقط بين الأنداد، ببنما يفعل القوي ما يستطيع ويعاني الضعيف كما يتحتّم عليه".
تلخّص هذه العبارة في اعتقادي مأساةَ الصراع العربي الإسرائيلي، الذي كان ولا يزال صراعاً أبعد ما يكون عن النديّة بين الغرب ممثّلاً بإسرائيل ومن ورائها من جهة (بريطانيا العظمى وألمانيا وفرنسا والولايات المتّحدة الأمريكيّة)، وشعوبٍ ضعيفةٍ ومتخلّفة على أكثر الأصعدة من جهةٍ ثانية، رغم المظاهر الخادعة والتفّوّق العددي والجغرافي، ورغم "العنتريّات التي ما قتلت ذبابة".
المؤلّف موشيه ماعوز أكاديمي إسرائيلي، وتلميذ ألبرت حوراني. كَتَبَ الدكتور ماعوز سيرةً للرئيس الراحل حافظ الأسد عام ١٩٨٨، بنفس الوقت الذي صدرت به الترجمة الأكثر شهرة للبريطاني Patrick Seale. الكتاب قيد الحديث من منشورات عام ١٩٩٥ عن Oxford بطول حوالي ٢٨٠ صفحة. تجدر هنا الإشارة أنّ ماعوز يعتبر من "الحمائم" في إسرائيل، ويدير معهد السلام في الجامعة العبريّة في القدس.
____________________________________
ليس الكتاب محاولةً لتلخيص ما يمكن اعتباره الصراع الأقدم في الشرق الأدنى، وإنّما بالأحرى قصّة الاتّصالات المباشرة وغير المباشرة بين العرب والصهاينة قبل وبعد قيام دولة إسرائيل مع تركيز خاصّ على سوريّا.
غزل الهاشمييّن مع الصهاينة معروفٌ وقديم: من "اتفاقيّة فيصل - وايزمان" في كانون الثاني عام ١٩١٩، إلى الاجتماعات بين الملك عبد الله الأوّل والسيّدة غولدا مائير في أواخر أربعينات القرن العشرين، وصولاً إلى التعاون السرّي بين الملك حسين وزعماء إسرائيل إلى درجة أنّه ذهب شخصيّاً ليحذّر مائير من هجوم مصري - سوري وشيك عام ١٩٧٣. علّ علاقة الصهاينة مع الهاشمييّن هي الأقدم بين المعاملات العربيّة - الإسرائيليّة، بيد أنّها ليست موضوع الكتاب.
يبدأ الفصل الأوّل بالتعرّض لاتّصالات بعض زعماء الكتلة الوطنيّة في سوريّا تحت الانتداب الفرنسي مع الصهاينة، بهدف خطب ودّ بريطانيا لتساعدهم في مساعيهم لتحقيق الاستقلال. على سبيل المثال أدان رئيس الوزراء جميل مردم بك ما وصفه بالإرهاب في فلسطين في تشرين أوّل عام ١٩٣٧ (ورد هذا فقط في جريدة باللغة الفرنسيّة في دمشق)، كما عَقَدَ عدّة اجتماعات مع حاييم وايزمان التماساً لوساطتهِ مع Léon Blum، رئيس الوزراء الفرنسي اليهودي والصهيوني الهوى. لم يقتصرالاتّصال المباشر على مردم بك، بل تعدّاه إلى زعيم الكتلة الوطنيّة شكري القوّتلي الذي اجتمع مع ممثّلي الصهاينة في بلودان عام ١٩٣٦.
____________________________________
نأتي الآن إلى عهد الاستقلال، عندما عَرَضَ حسني الزعيم معاهدة سلام شاملة مع إسرائيل عوضاً عن الهدنة، بما فيها تبادل سفراء وحدود مفتوحة وتعاون اقتصادي وعسكري. تطوّع الزعيم بتوطين ربع مليون إلى ثلاثمائة ألف لاجئ فلسطيني في منطقة الجزيرة. لسوء حظّ الرئيس السوري رفض بن غوريون عرضَهُ وحتّى لقائَهُ ما لم تخلي القوّات السوريّة مسبقاً الأراضي التي "احتلّتها" عام ١٩٤٨. تكرّرت المحاولات في عهد الشيشكلي بوساطةٍ أمريكيّة وإن كانت أقلّ طموحاً: اقتصر عرض الشيشكلي على إنهاء حالة الحرب مع استعدادِِه لتوطين نصف مليون فلسطيني من الأردن ولبنان وغزّة إضافة إلى الثمانين ألفاً المتواجدين في سوريّا، شريطةَ حصولِ بلادِهِ على ٢٠٠ مليون دولار لتطوير اقتصادِها. مرّةً ثانية لم تكن هذه الحوافز كافيةً لزعماء إسرائيل.
دون الدخول في قصّة تحويل نهر الأردن والمزايدات التي تكلّلت بهزيمة مصر وسوريا والأردن، جرت أكثر من محاولة من وراء الستار - على الأقلّ من الجانب المصري - للوصول إلى صيغةِ تفاهمٍ مع إسرائيل بعد كارثة ١٩٦٧ دون نتيجة، وحتّى في دمشق أعلن الرئيس حافظ الأسد في آذار ١٩٧٢ قبولَهُ قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢ (الذي رفضه صلاح جديد سابقاً). لم يتنازل الإسرائيليّون بإعارة هذه المبادرات أدنى اهتمام، وبالنتيجة أدرك السادات والأسد أنّه لا مفرّ من الحرب إذا أراد العرب تحسينَ موقِفِهِم التفاوضي. شنّت مصر وسوريّا هجوماً على إسرائيل في تشرين أوّل ١٩٧٣ تغيّرت على إثْرِهِ معادلاتٌ كثيرة، وليس بالضرورة إلى الأفضل.
اضطرّ الأسد بعد توقيع المعاهدة المصريّة الإسرائيليّة في آذار ١٩٧٩ إلى البحث عن استراتيجيّة بديلة لتحسين وضع سوريا التفاوضي واستعادة الجولان، تلخّصت خِطّتُهُ بإنشاء جبهةٍ شرقيّة إذا جاز التعبير، تجمع العراق وسوريّا ولبنان والأردنّ ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة. لم يكن نجاح هذا الائتلاف على المستوى المأمول، إذ تدهورت العلاقات مع العراق ووصلت إلى الحضيض عندما هاجم صدّام حسين إيران عام ١٩٨٠، وتذبذب عاهل الأردن إلى حدّ دعم الإخوان المسلمين في سوريّا. زادت صلافة الإسرائيلييّن بعد تحييد مصر إلى حدّ ضمّ الجولان في كانون أوّل ١٩٨١، ومن ثمّ غزو لبنان في حزيران ١٩٨٢.
نأتي الآن إلى عهد الاستقلال، عندما عَرَضَ حسني الزعيم معاهدة سلام شاملة مع إسرائيل عوضاً عن الهدنة، بما فيها تبادل سفراء وحدود مفتوحة وتعاون اقتصادي وعسكري. تطوّع الزعيم بتوطين ربع مليون إلى ثلاثمائة ألف لاجئ فلسطيني في منطقة الجزيرة. لسوء حظّ الرئيس السوري رفض بن غوريون عرضَهُ وحتّى لقائَهُ ما لم تخلي القوّات السوريّة مسبقاً الأراضي التي "احتلّتها" عام ١٩٤٨. تكرّرت المحاولات في عهد الشيشكلي بوساطةٍ أمريكيّة وإن كانت أقلّ طموحاً: اقتصر عرض الشيشكلي على إنهاء حالة الحرب مع استعدادِِه لتوطين نصف مليون فلسطيني من الأردن ولبنان وغزّة إضافة إلى الثمانين ألفاً المتواجدين في سوريّا، شريطةَ حصولِ بلادِهِ على ٢٠٠ مليون دولار لتطوير اقتصادِها. مرّةً ثانية لم تكن هذه الحوافز كافيةً لزعماء إسرائيل.
دون الدخول في قصّة تحويل نهر الأردن والمزايدات التي تكلّلت بهزيمة مصر وسوريا والأردن، جرت أكثر من محاولة من وراء الستار - على الأقلّ من الجانب المصري - للوصول إلى صيغةِ تفاهمٍ مع إسرائيل بعد كارثة ١٩٦٧ دون نتيجة، وحتّى في دمشق أعلن الرئيس حافظ الأسد في آذار ١٩٧٢ قبولَهُ قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢ (الذي رفضه صلاح جديد سابقاً). لم يتنازل الإسرائيليّون بإعارة هذه المبادرات أدنى اهتمام، وبالنتيجة أدرك السادات والأسد أنّه لا مفرّ من الحرب إذا أراد العرب تحسينَ موقِفِهِم التفاوضي. شنّت مصر وسوريّا هجوماً على إسرائيل في تشرين أوّل ١٩٧٣ تغيّرت على إثْرِهِ معادلاتٌ كثيرة، وليس بالضرورة إلى الأفضل.
اضطرّ الأسد بعد توقيع المعاهدة المصريّة الإسرائيليّة في آذار ١٩٧٩ إلى البحث عن استراتيجيّة بديلة لتحسين وضع سوريا التفاوضي واستعادة الجولان، تلخّصت خِطّتُهُ بإنشاء جبهةٍ شرقيّة إذا جاز التعبير، تجمع العراق وسوريّا ولبنان والأردنّ ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة. لم يكن نجاح هذا الائتلاف على المستوى المأمول، إذ تدهورت العلاقات مع العراق ووصلت إلى الحضيض عندما هاجم صدّام حسين إيران عام ١٩٨٠، وتذبذب عاهل الأردن إلى حدّ دعم الإخوان المسلمين في سوريّا. زادت صلافة الإسرائيلييّن بعد تحييد مصر إلى حدّ ضمّ الجولان في كانون أوّل ١٩٨١، ومن ثمّ غزو لبنان في حزيران ١٩٨٢.
أتت أواخر الثمانينات بتحدّياتٍ جديدة، علّ أهمّها الضعف المتزايد للاتحاد السوڤييتي الذي سعى، بنفس الوقت الذي قلّص فيه دعمَهُ المادّي والعسكري لدمشق، إلى تحسين علاقاتِهِ مع إسرائيل. حاول الأسد جهدَهُ أن يعزّز وضعه الاستراتيجي المتدهور عن طريق رأب الصدع مع مصر وتحسين العلاقات مع واشنجتون قدر الإمكان، وساعده في ذلك إلى درجةٍ كبيرة تهوّر الرئيس العراقي في غزوه الكويت في صيف ١٩٩٠، عندما خطب الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب ودّ سوريا إلى درجة إطلاق يدِها في لبنان "لتتصرّف" مع ميشيل عون. فتحت هذه التطوّرات فرصةً جديدة للمفاوضات السوريّة - الإسرائيليّة في مؤتمر مدريد الذي استهلّ جلساتِهِ في تشرين أوّل ١٩٩١، وشَهِدَ تبادل الاتّهامات الشهير بين إسحق شامير وفاروق الشرع.
ساء الوضع التفاوضي السوري مجدّداً بعد توقيع ياسر عرفات اتّفاقيّة أوسلو في أيلول ١٩٩٣، ومن ثمّ توقيع الأردنّ اتفاقيّة وادي العربة في تشرين أوّل ١٩٩٤. عَنَت هذه التطوّرات بكل بساطة أنّ سوريّا أصبحت نظريّاً وعمليّاً دولةَ المجابهة الوحيدة، باستثاء لبنان الذي كان جنوبُهُ لا يزال تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأنّ المعادلة التي لم تكن يوماً متوازنةً أصبحت أكثر اختلالاً من أيّ وقت مضى. لم يبق أمام الأسد إلّا أن يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهكذا أكّد للرئيس الأمريكي كلينتون في ٢٧ تشرين الثاني ١٩٩٤، استعداد سوريّا لإقامة سلام شامل مع إسرائيل، لقاء انسحاب كامل من الجولان. من ناحيتِهِ أعلن رئيس وزراء الدولة العبريّة إسحق رابين استعدادَهُ لاتّخاذ "قرارات مؤلمة"، وأن "تفعل إسرائيل المطلوب منها إذا فعل السوريّون المطلوب منهم".
اغتيل رابين في ٤ تشرين الثاني عام ١٩٩٥، قبل فترةٍ وجيزةٍ من صدور الكتاب.
ختاماً كتب الأكاديمي "المعتدل" موشيه ماعوز في جريدة هاآرتز في ١٣ حزيران ٢٠١٣، مقالاً نادى فيه إلى دعم المتمرّدين - أي المعارضة السوريّة - لعدّة اعتبارات، منها أنّ "نظام الأسد شكّلَ حلقةً مهمّةً في المحور الشيعي المتطرّف الذي تقوده إيران، أخطر أعداء إسرائيل، وأخطر أعداء الدول السنيّة مثل تركيا والسعوديّة والأردن وبعض دول الخليج".

No comments:
Post a Comment