Saturday, July 8, 2017

وراثة سوريّا



تجاوزت أحداث العشرين سنة الأخيرة بمراحل هذا الكتاب الصادر في مطلع ٢٠٠٥، قبيل اغتيال رئيس الوزارة اللبناني رفيق الحريري في ١٤ شباط من نفس العام. تبقى هذه الدراسة مع ذلك مفيدةً لفهم عقليّة "الحمائم" من مفكّري الولايات المتّحدة وسياسييّها.

المؤلّف الدكتور Flynt Leverett، أستاذ في Pennsylvania State University، ومدير سابق لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، ويُعْتَبَر من الخبراء في المواضيع المتعلّقة بسوريّا. حاول الكاتب خلال حوالي ٢٧٠ صفحة فَحْصَ الظروف الإقليميّة والدور السوري فيها، مع تحليل لطبيعة الدولة السوريّة وطريقة إدارتِها قبل وخلال السنوات الأولى لرئاسة بشّار الأسد، والتحدّيات التي جابهتها، ليختم بخيارات إدارة جورج بوش في التعامل مع سورّيا، وتوصياتِهِ مع أو ضدّ هذه الخيارات.

____________

بدأ المؤلّف بلمحةٍ سريعة عن بنية الدولة السوريّة التي نعتها "بالفسيفساء الهشّة" طائفيّاً وعرقيّاً، ولَفَتَ نظرَ قرّائِهِ إلى ضعف اقتصادها، حتّى مقارنةً مع الدول العربيّة الغير نفطيّة: لم يتجاوز الناتج المحلّي الإجمالي GDP للفرد فيها ٣٣٠٠$ سنويّاً لقاء ٤٠٠٠$ في مصر و ٤٣٠٠$ في الأردنّ، رغم أنّ النفط شكّلَ على الأقلّ ٥٠٪ من صادراتِها التجاريّة. نجحت سوريّا مع ذلك في إثارة العراقيل في وجه السياسة الأمريكيّة بما لا يتناسب مع حجمِها وقدراتِها، أو كما قال الدكتور هنري كيسنجر: "لا حرب في الشرق الأوسط دون مصر ولا سلام دون سوريّا".

ارتكز استقرار سوريّا في عهد حافظ الأسد على ثلاثِ دعائم: الأولى مفاتيح القوّة، أي الجيش وحزب البعث والمنظّمات الشعبيّة. تمثّلت الدعامة الثانية في عَلْمَنة الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة لجذب الأقليّات الدينيّة (دروز، إسماعيلييّن، علوييّن، مسيحييّن) دون الأقليّات القوميّة (الأكراد). يحسنٌ في هذا السياق التنويه أنّ الحكومة (أو النظام حسب المنظور) بذلت جَهْدَها لاستمالة "المعتدلين" من السنّة، أو بعبارةٍ ثانية غير المسيّسين منهم. الدعامة الثالثة كانت خَلْق رئاسة شخصيّة ومركزيّة على نهج الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وإعطاء الرئيس صلاحيات واسعة للغاية كرّسَها الدستور.

____________

ولد بشّار الأسد في ١١ أيلول ١٩٦٥، ودخل كليّة الطبّ قي جامعة دمشق عام ١٩٨٢ ليتخرّج عام ١٩٨٨، قبل تأدية خدمته العسكريّة، ومن ثمّ سَفَرِهِ إلى المملكة المتّحدة عام ١٩٩٢ بهدف الاختصاص في طبّ العيون. تجدر الإشارة هنا أنّ الأسد باختياره أن يدرس الطبّ في سوريا، خالف القاعدة العامّة في العالم العربي، القاضية بإرسال أولاد النخبة للدراسة في الغرب منذ البداية.

كانت المنطقة تمرّ بتغيّرات جوهريّةٍ عندما استلم الأسد الابن زمام الرئاسة بعد موت والده عام ٢٠٠٠. لم يفتقر عهد الأب إلى التحدّيات بأي حالٍ من الأحوال، وإن أمكن القول، ودون أي مبالغة، أنّ طريق العهد الجديد كانت أكثر وعورةً منذ البداية: انهارت المفاوضات السوريّة الإسرائيليّة في آذار، وزادت الضغوط على سوريّا لسحب قوّاتِها من لبنان بعد أن أتمّ الإسرائيليّون انسحابهم (أو هكذا ادّعوا ووافقهم مجلس الأمن) في أيّار، واندلعت انتفاضة الأقصى في أيلول. شَهِدَ عام ٢٠٠١ بداية رئاسة جورج بوش في الولايات المتّحدة، ووزارة آريل شارون في إسرائيل، وثالثة الأثافي تفجير مركز التجارة العالميّة على يد إرهابييّ القاعدة في أيلول من نفس العام، وما سُميّ "بالحرب ضدّ الإرهاب" تِلوَ هذا التفجير.

أثيرَ جدلُ في الولايات المتّحدة عن الطريقة الأنسب للتعامل مع سوريّا، التي يمكن تلخيص "آثامِها" كما يلي:

- "دعم الإرهاب" لبنانيّاً كان (حزب الله) أم فلسطينيّاً (القيادة العامّة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين).
- امتلاكها "أسلحة الدمار الشامل"، أي الأسلحة الكيميائيّة.
- قمع النظام لشعبه.
- عدم تعاون دمشق بما فيه الكفاية مع أمريكا في حربها ضد الإرهاب.
- عدم التزام سوريّا بالمقاطعة الأمريكيّة ضدّ العراق.
- "احتلال" لبنان.

راكمت سوريّا المزيد من الذنوب التي لا تُغْتَفَر، بعد أن "حرّر" بوش العراق عام ٢٠٠٣. لم يكتفِ الأسد بشجب هذا التحرير، بل تجرّأ على رفض حراسة الحدود السوريّة - العراقيّة بالتعاون مع الأمريكيّن أو نيابةً عنهم. أضِفْ إلى ذلك تذبذب السورييّن عندما طالبتهم الولايات المتّحدة بالأرصدة التي نقلها المسؤولون العراقيّون إلى البنوك السوريّة قبل سقوط صدّام حسين.

____________

طرح الدكتور Levertt خيارات الولايات المتّحدة في التعامل مع سوريّا كما يلي:

- زيادة الضغط على دمشق "لتغييرِ سلوكها" عن طريق المزيد من العقوبات. ارتأى الكاتب أنّ هذا الأسلوب غير عملي على اعتبار أنّ سوريّا مدرجةٌ على قائمة "الدول المؤيّدة للإرهاب" منذ عام ١٩٧٩ دون نتيجةٍ تذكر، ناهيك عن إمكانيّة عدم تعاون الاتّحاد الأوروپّي في هذا الصدد.

- الحلّ الثاني تغيير النظام بالقوّة على غرار ما حصل في العراق وأفغانستان. بيد أنّ شهيّة أمريكا "لتحرير سوريّا" تقلّصت بعد الصعوبات التي واجهتها والخسائر التي تكبّدتها والفوضى التي خلقتها مغامراتُها في الشرقين الأدنى والأسط. لا داعي بالطبع لذكر ما حلّ بالعراقييّن والأفغان فهذه مشكلتهم وليست من شأن بوش وشركاه على الإطلاق.

- الحلّ الثالث إعطاء حوافز لسوريا عن طريق إحياء "عمليّة السلام"، أي المفاوضات السوريّة - الإسرائيليّة. العقبة الكأداء هنا ليست سوريا وإنّما إسرائيل: ما الذي يمكن أن يغري الحكومة الإسرائيليّة بدفع الثمن الذي طلبَتْهُ سوريّا للسلام (التخلّي عن الجولان)؟

- الحلّ الرابع (الذي أوصى به المؤلّف) أن تتّبع الولايات المتّحدة مع سوريّا سياسة "العصا والجزرة"، تستطيع أمريكا - على سبيل المثال - أن تشطب سوريّا من لائحة الدول المؤيّدة للإرهاب إذا تعاونت مع الغرب في حروبِهِ ضدّ الإرهاب، كما تستطيع أن تسمح لها بالمساهمة في "إعادة بناء العراق" إذا تعاونت في الملفّ العراقي. استشهد Levertt هنا بالنموذج الليبي عندما وافقت إدارة بوش على "إعادة تأهيل" الزعيم الليبي معمّر القذّافي لقاء تنازله عن "أسلحة الدمار الشامل" ودفع تعويضات عن ضحايا Lockerbie (كلّنا نعلم ما حلّ بالقذّافي عام ٢٠١١ بيد أنّ الوضع بدا مختلفاً مطلع ٢٠٠٥).

____________

انتهى الكتاب في ٣٥ صفحة مخصّصة للتسلسل الزمني للأحداث من وفاة الرئيس حافظ الأسد في ١٠ حزيران ٢٠٠٠، إلى آخر كانون أوّل ٢٠٠٤. كَتَبَ Leverett مقالاً في ٢ آذار ٢٠٠٥ (أي بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري بقليل) دعى فيه إلى التريّث وعدم مهاجمة سوريّا، بل وحتّى عدم التسرّع في حَمْلِها على سحب جيشها من لبنان؛ هناك مقالٌ آخر للمؤلّف صدر في ٣٠ أيّار ٢٠١٤، عاب فيه على الرئيس أوباما مساندته للإسلامييّن المتشنّجين في سوريّا، مؤكدِّاً أنّ معظم السورييّن يرفضونَهُم، وحذّر من الكارثة التي تتتظر البلاد إذا سقطت حكومة الأسد، وطرح سؤالاً لا يزال صداهُ يتردّد عبر الشرق الأدنى ككلّ إلى اليوم: كم ينبغي أن يموت من السورييّن قبل أن تفكّر واشنجتون بتغيير سياساتِها؟!

No comments:

Post a Comment