رأينا كيف وصلتنا مخطوطة ابن بدير الحلّاق منقّحة ومعدّلة عن طريق محمّد سعيد القاسمي. ما قام به هذا الأخير غير مقبول من وجهة نظر أكاديميّة تتوخّى الأمانة في النقل ومع ذلك فالفضل له في تعريفنا على هذا الكتاب النفيس وليس من العدل الحكم عليه بالمقاييس المدرسيّة المعاصرة. في كلّ الأحوال لم يحاول القاسمي إخفاء تعديلاته -إن لم نقل تشويهاته- بل على العكس كان فخوراً بها كما تدلّ على ذلك مقدّمة الكتاب:
"أمّا بعد، فإنّ حوادث دمشق اليوميّة التي صدر غالبها في أيّام الوزيرين العظيمين سليمان باشا وأسعد باشا اللذين هما من أعيان وزراء بني العظم العظام، جمعها الفاضل شهاب الدين أحمد بن بدير البديري الشهير بالحلّاق من سنة ١١٥٤ إلى سنة ١١٧٦ قد اشتملت على غرائب وعجائب وأهوال، ولبساطة مؤلّفها كتبها بلسان عامّي ثمّ أطنب بزيادات الحوادث وأدعية مسجّعة يملّ سامعها ويسأم قارئها، فحذفت القشر من هذه الحوادث ووضعت اللباب وهذّبتها على حسب الاستطاعة بالصواب، وإليه تعالى المرجع والمآب آمين".
هل التزم القاسمي فعلاً "بحذف القشر ووضع اللباب"؟ وهل نقل لنا فعلاً الصورة كما رسمها ابن بدير؟
قامت الدكتورة دانا سجدي بمقارنة نصّ البديري كما غربله القاسمي مع مخطوطة أصليّة فريدة من مجموعة Chester Beatty في Dublin. هذه المخطوطة كانت محتواة في مجلّد شمل إضافة إليها مخطوطتين إضافيّتين مغمورتين الأولى لزين العابدين بن السيّد محمّد البرزنجي المكّي (توفّي ١٧٥٩) بعنوان "كشف الحجب والستور عمّا وقع لأهل المدينة مع أمير مكّة سرور" والثانية لأبي كمال محمّد سعيد السويدي البغدادي (توفّي ١٨٣١) بعنوان "ورود حديقة الوزراء بورود وزارة مواليهم في الزوراء".
ما يهمّنا هنا مخطوطة ابن بدير وباستقراء هذه المخطوطة وصلت الدكتورة سجدي إلى تنائج بالغة الأهميّة ومنها:
١. تعديلات القاسمي تجاوزت اللغة والأسلوب والقواعد بكثير وحتّى فيما يتعلّق باللغة انطلق المحقّق من العربيّة المعاصرة التي كانت بداياتها في النهضة الأدبيّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولم يكن دوماً موفّقاً في تهذيب وتنقيح اللغة الأقدم للنصّ. أي بعبارة ثانية ما اعتبره القاسمي "اللسان العامّي" لابن بدير عكس إلى حدّ كبير تطوّر اللغة خلال قرن من الزمن وليس جهل المؤلّف.
٢. بجّل القاسمي الدولة العثمانيّة ونوّابها من آل العظم أكثر بكثير ممّا فعل ابن بدير وعلى سبيل المثال ذكر هذا الأخير لإنجازات أسعد باشا العماريّة في قصر العظم وخان البزوريّة كان للتوكيد على تبذير الوالي والظلم الذي وقع بالناس من جرّاء هذا التبذير بينما اعتبر القاسمي هذه العمائر التي "عزّ نظيرها في الدنيا" فخراً لآل العظم ومجداً لهم. ابن بدير يركّز على الحوادث الجارية بينما همّ القاسمي التاريخ والتراث بالدرجة الأولى. يذكّر القصر والخان ابن بدير بالملك النمرود الكافر (أو فلنقل شدّاد ابن عاد وإرم ذات العماد) والقاسمي بالنبي سليمان وهيكله في القدس.
٣. حذف القاسمي الكثير عن ابن بدير كإنسان وعن عائلته وشعره والناس الذين خالطهم وأهمل التراجم في المخطوط الأصلي اللهمّ إلّا من اعتبرهم جديرين بالذكر وبذل قصارى جهده لتجنّب الخوض في علاقات ابن بدير مع أكابر القوم.
٤. من الواضح أنّ القاسمي منحاز لآل العظم وبالتالي فهو ضدّ أعدائهم ومنافسيهم وعلى رأسهم فتحي أفندي الدفتري وعلّ هذا عكس رغبة لديه في التقرّب من هذه العائلة التي استمرّ نفوذها في دمشق حتّى مطلع ستّينات القرن العشرين.
رغم هذه الاعتراضات وغيرها ما كان لنا التعرّف على ابن بدير و"حوادثه" دون وساطة القاسمي وسعيه المشكور ومن حسن الحظّ أنّنا اليوم نمتلك نسخة من النصّ الأصلي للمقارنة. ختاماً قام التلفزيون السوري عام ٢٠٠٧ ببثّ مسلسل "الحصرم الشامي" استناداً إلى الحلّاق وكتابه. لم يتح لي مشاهدته وبالتالي لا أستطيع الحكم فيما إذا كان أقرب إلى البديري من منظور القاسمي أم إلى ابن بدير الحقيقي.