علّ الأب اليسوعي Lammens أوّل من حاول تقصّي رواية هدم كنيسة دمشق الملكيّة أو "كنيسة يوحنّا المعمدان" عبر الشعر العربي الذي عاصر عمليّةً استغرقت عشر سنواتٍ (٧٠٥ - ٧١٥ للميلاد). استعرض العالِم البلجيكي ما أنشده النابغة الشيباني و الفرزدق في هذا الصدد وأعاد الدكتور آلان جورج النظر في القصيدتين بعد انصرام قرابة مائة عام وأضاف لهما شهادةً ثالثةً من إحدى قصائد جرير. الأبيات المتعلّقة بالموضوع في المصادر الثلاثة هي الآتية:
الفرزدق (انظر أيضاً الجزء الثاني من كتاب تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر صفحة ٢٥٩):
فرَّقت بين النصارى في كنائسهم
والعابدين مع الأسحار والعتم
وهم معًا فى مصلاهم وأوجههم
شتى إذا سجدوا لله والصنم
وكيف يجتمع الناقوس يضربه
أهل الصليب مع القراء لم تنم
فهمت تحويلها عنهم كما فهما
إذ يحكمان لهم في الحرث والغنم
داود والملك المهدي إذ حكما
أولادها واجتزاز الصوف بالجلم
فهمك الله تحويلًا لبيعتهم
عن مسجد فيه يُتلى طيب الكلم
إِنَّ الوَليدَ خَليفَةٌ لِخَليفَةٍ
رَفَعَ البِناءَ عَلى البِناءِ الأَعظَمِ
فَعَلا بِناؤُكُمُ الَّذي شَرَّفتُمُ
وَلَكُم أَباطِحُ كُلِّ وادٍ مُفعَمِ
...
إِنَّ الكَنيسَةَ كانَ هَدمُ بِنائِها
قَسراً فَكانَ هَزيمَةً لِلأَخرَمِ
فَأَراكَ رَبُّكَ إِذ كَسَرتَ صَليبَهُم
نورَ الهُدى وَعَلِمتَ ما لَم نَعلَمِ
قَلَعتَ بِيعَتَهُم عَن جَوفِ مَسجِدِنا
فَصَخرُها عِن جَديدِ الأَرضِ مَنسوفُ
كانَت إِذا قامَ أَهلُ الدينِ فَاِبتَهَلوا
باتَت تُجاوِبُنا فيها الأَساقيفُ
أَصواتُ عُجمٍ إِذا قاموا بِقُربَتِهِم
كَما تُصَوِّتُ في الصُبحِ الخَطاطيفُ
فَاليَومَ فيهِ صَلاةُ الحَقِّ ظاهِرَةٌ
وَصادِقٌ مِن كِتابِ اللَهِ مَعروفُ
فيهِ الزَبَرجَدُ وَالياقوتُ مُؤتَلِقٌ
وَالكِلسُ وَالذَهَبُ العِقيانُ مَرصوفُ
تَرى تَهاويلَهُ مِن نَحوِ قِبلَتِنا
يَلوحُ فيهِ مِن الأَلوانِ تَفويفُ
يَكادُ يُعشي بَصيرَ القَومِ زِبرِجُهُ
حَتّى كَأَنَّ سَوادَ العَين مَطروفُ
وَفِضَّةٌ تُعجِبُ الرائينَ بِهجَتُها
كَريمُها فَوقَ أَعلاهُنَّ مَعطوفُ
وَقُبَّةٌ لا تَكادُ الطَيرُ تَبلُغُها
أَعلى مَحاريبها بِالساجِ مَسقوفُ
لَها مَصابيحُ فيها الزَيتُ مِن ذَهَبٍ
يُضيءُ مِن نورِها لُبنانُ وَالسِيفُ
فَكُلُّ إِقبالِهِ وَاللَهُ زَيَّنَهُ
مُبَطَّنٌ بِرُخامِ الشامِ مَحفوفُ
"الأخرم" أي المثقوب أو المشقوق أو المجدوع الأنف في قصيدة جرير هو إمبراطور بيزنطة جستنيان الثاني ولهجة الانتصار واضحة لا لبس فيها. الملفت للانتباه في قصيدتيّ جرير والفرزدق أنّهما تقتصران على هدم الكنيسة ولا تشيران إلى بناء الجامع الجديد على العكس من قصيدة الشيباني التي تصفُ البناءَ وزخارفه بتفصيلٍ لا بأس به أبداً بمقاييس ذلك العصر أوّلاً وحدود متطلّبات الشعر (القافية والبلاغة والوزن - العَروض والحيّز المتاح) ثانياً.
خَلُصَ الدكتور جورج (صفحة ٧٢ - ٧٥) إلى نتيجةٍ مَفَادُها أنّ جرير والفرزدق كتبا بين ٧٠٥ - ٧١١ للميلاد وعلى الأرجح أقرب إلى التاريخ الأوّل بينما كتب الشيباني قُبَيل إنجاز الجامع (على اعتبار أنّه وصَفَهُ) أي بعد ٧١١. خالف جورج إذاً - واستناداً إلى معطياتٍ ومنظورٍ مختلفان تمام الاختلاف - رأي الأب Lammens الذي اعتقد أنّ الفرزدق انتحل عن النابغة الشيباني كما سبق ورأينا.
Alain George. The Umayyad Mosque of Damascus. Art, Faith and Empire in Early Islam. Gingko, 2021.
No comments:
Post a Comment