رأينا - بفضل الدكتور آلان جورج - شحّ الإشارات إلى ما يفترض أنّها كنيسة دمشق الرئيسة في سرديّات المؤرّخين المسيحييّن قبل الإسلام والغياب التامّ لأي صلة بينها وبين يوحنّا المعمدان في هذه المصادر. أختصر في الأسطر التالية ما كتبه جورج عنها في المصادر الإسلاميّة (صفحة ١٠٣ - ١٠٩):
- زوّدنا الربعي (دمشقي من وفيّات ١٠٥٢ للميلاد) بعدّة روايات مختلفة الإسناد في كتاب "فضائل الشام" منها:
"أخبرنا تمّام حدّثنا أحمد حدّثنا أبو شبيب محمّد بن أحمد بن المعلّى حدّثنا أحمد بن المعلّى قال وأخبرني إسماعيل بن أبان حدّثني زيد بن واقد قال حضرت رأس يحيى بن زكريّا عليهما السلام وقد أخرج من البلاطة القبليّة الشرقيّة التي عند عمود مجلس بجيلة فوضع تحت عمود السكاسك".
السكاسك قبيلة يمنيّة من كِنْدَة أيّدت الأموييّن وبجيلة قبيلة من إقليم مكّة.
وأيضاً:
"وأخبرنا تمّام قال: حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ المعلّى حدّثنا القاسم بن عثمان قال: سمعت الوليد بن مسلم وسأله رجلٌ يا أبا العباس أين بلغك رأس يحيى بن زكريّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بلغني أنّه ثم وأشار بيده إلى العمود المسفط الرابع من الركن الشرقي".
يقع مقام يحيى - المعمدان اليوم بين العمودين الثالث والرابع انطلاقاً من المجاز المعترض ممّا يوافق رواية الربعي.
لا ذكر لمشهد أو مقام يحيى في رواية أو بالأحرى روايات الربعي الذي اكتفى بذكر الرأس وموضع اكتشافه المزعوم أمّا المقدسي (القرن العاشر للميلاد) فلم يتعرّض إلى الرواية على الإطلاق.
- ابن عساكر (١١٠٥ - ١١٧٦ للميلاد) في "تاريخ مدينة دمشق":
"أخبرنا أبو الفضائل بن محمود أنبأنا علي بن أحمد بن زهير أنبأنا علي بن شجاع أنبأنا أبو الحسين عبد الوهاب بن جعفر أنبأنا محمّد بن عبد الله الربعي أنبأنا علي أنبأنا محمّد بن يوسف أنبأنا أحمد بن إبراهيم الغسّاني أنبأني أبي عن أبيه عن زيد بن واقد قال وكّلني الوليد على العمّال في بناء جامع دمشق فوجدنا فيه مغارةً فعرّفنا الوليد ذلك فلما كان الليل وافى وبين يديه الشمع فنزل فإذا هي كنيسة لطيفة ثلاثة أذرع في ثلاثة أذرع وإذا فيها صندوق ففتح الصندوق فإذا فيه سبط وفي السبط رأس يحيى بن زكريّا عليهما السلام مكتوب عليه هذا رأس يحيى بن زكريّا فأمر به الوليد فردّ إلى المكان وقال اجعلوا العمود الذي فوقه مغيرا من الأعمدة فيجعل عليه عمود مسبك مسفط لرأس قال ونبّأنا علي ونبّأنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عمر الإمام نبّأنا ابن حبيب أنبأنا أبو عبد الملك نبّأنا مهدي بن جعفر أنبأنا الوليد بن سالم نبّأنا زيد بن واقد قال رأيت رأس يحيى بن زكرّيا حيث أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبّة وكانت البشرة والشعر على رأسه لم تتغير أخبرنا أبو محمد هبة الله بن الأكفاني وعبد الكريم بن حمزة قالا أنبأنا أبو محمّد الكتاني أنبأنا تمّام الرازي وعبد الوهاب الميداني قالا أنبأنا أبو الحارث أحمد بن محمد بن عمارة أنبأنا أحمد بن المعلّى حينئذ قال تمّام وأخبرنا أبو إسحاق بن سنان إجازة أنبأنا أبو المعلّى قال تمّام وأخبرني يحيى بن عبد الله بن الحارث أنبأنا عبد الرحمن بن عمر المازني أنبأنا أبو المعلّى قال أخبرني القاسم بن عثمان قال سمعت الوليد بن مسلم وسأله رجل يا أبا العباس أين بلغك رأس يحيى بن زكريّا قال بلغني أنّه ثم وأشار بيده إلى العمود المسفط الرابع من الركن الشرقي" إلى آخره.
يسترسل ابن عساكر في ذكر الأوجه المختلفة للرواية ولكنّها لا تختلف عمّا أورده الربعي ويمكن بإسقاط سلاسل الإسناد اختزالها في عبارتين أو ثلاثة. مختصر الكلام لا ذكر لمشهد في سرد الحافظ.
- ابن جبير الأندلسي (زار دمشق عام ١١٨٤ للميلاد):
"فأوّلها مشهد رأس يحيى بن زكريّا عليه السلام وهو مدفون بالجامع المكرّم في البلاط القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابيّة رضي الله عنهم وعليه تابوت خشب معترض من الأسطوانة وفوقه قنديل كأنه من بلّور مجوّف كأنه القدح الكبير لا يدرى من أي زجاج عراقي أم صوري هو أم من غير ذلك".
المشهد مذكورٌ إذاً في رحلة ابن جبير المعروف بدقّته وقوّة ملاحظته.
- ابن بطوطة (زار دمشق ١٣٤٨ للميلاد) في "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار":
"وفي وسط المسجد قبر زكريّا عليه السلام، وعليه تابوت معترض بين أسطوانتين مكسو بثوب حرير أسود معلم فيه مكتوب بالأبيض: يا زكريّا إنا نبشّرك بغلام اسمه يحيى".
المشهد إذاً مذكور في رواية ابن بطوطة الذي نَسَبَه إلى زكريّا عوضاً عن يحيى.
نأتي الآن إلى وصف الإسپاني علي بيه العبّاسي (Domingo Badía) من وفيّات سوريّا ١٨١٨ (صفحة ٢٢٠) وعلّه الأقدم بين المستشرقين:
"هناك بيت صغير من الخشب على يسار البلاطة nef المركزيّة مزوّد بشبابيك وقولبات وزخارف مذهّبة ورسوم عربيّة arabesques. في هذا المسكن قبر النبي يوحنّا ابن زكريّا".
لا نملك صوراً ضوئيّةً للمشهد قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر وفيها يظهر - بقاعدته الحجريّة والقبّة التي تعلوه مختلفاً عن وصف "علي بيه". احترق المشهد عام ١٨٩٣ للميلاد ليحلّ محلّه المقام الحالي (الصورة الملحقة).
ختاماً تشير الأدلّة المتوافرة أنّ ذخائر يوحنّا المعمدان - النبي يحيى في دمشق (وليس في حمص) اختراع يعود إلى العهد الأموي وإليه ندين بأوّل ذكر لكنيسةٍ شاميّةٍ تحمل هذا الاسم إلى أن يثبت العكس.
Alain George. The Umayyad Mosque of Damascus. Art, Faith and Empire in Early Islam. Gingko, 2021
No comments:
Post a Comment