انتقلت البشريّة من الاعتماد على الصيد والقطاف إلى الزراعة كأهمّ مقوّماتها الحياتيّة والاقتصاديّة حوالي عشرة آلاف سنة قبل الميلاد وتزامنت هذه "الثورة الزراعيّة" مع بدايات العصر الحجري الحديث Neolithic Period. سمحت الزراعة وتربية الحيوانات بزيادة سكّانيّة غير مسبوقة وبقيت الأرض المصدر الأوّل والأهمّ للثروة إلى أن بدأت "الثورة الصناعيّة" في إنجلترا في نهاية القرن الثامن عشر للميلاد. انتشرت الصناعة والتقنيّة الحديثة في أوروبّا ومن ثمّ "العالم الجديد" في القرن التاسع عشر وتغيّرت معها ثوابت آلاف السنين. مع ذلك احتفظت الزراعة بمكانتها على رأس الهرم الاقتصادي في معظم أرجاء الأرض حتّى القرن العشرين.
باختصار شكّلت الثورتان - الزراعيّة والصناعيّة - قفزةً هائلة في تاريخ الإنسانيّة من الناحيتين الكميّة والنوعيّة ويضيف البعض إليهما الثورة المعلوماتيّة بداية من أواخر القرن العشرين وإن لا زال الوقت مبكّراً للتكهّن بنتائجها.
سوريّا قبل مائة عام كانت مجتمعاً زراعيّاً بالدرجة الأولى وبالتالي حسبنا بالتذكير بمقوّمات الزراعة الثلاث: الإنسان (الفلّاح) + الأرض + الماء. تتفاوت أهميّة كلّ من هذه المكوّنات حسب المكان:
* أوروبّا الغربيّة مطيرة وغنيّة بالأنهار وكثيفة السكّان (بلغ عدد سكّان فرنسا عام ١٨٠٠ حوالي ٢٧ مليون) ومنه تقاس ثروة المالك (أو الإقطاعي إذا شئنا) بمساحة الأرض التي يملكها.
* الوضع مختلف في روسيا القيصريّة الهائلة الاتّساع إذ لم يتجاوز عدد سكّانها في نفس العام (١٨٠٠) الخمسة والثلاثين مليوناً بما فيها أوكرانيا وبولونيا ودول البلطيق. إذاً المشكلة ليست في الأراضي بل بوجود من يفلح هذه الأراضي ومن هنا تقاس ثروة النبلاء بعدد سكّان قراهم: الأمير فلان يملك خمسة آلاف نسمة والدوق علتان لديه عشرين ألف نسمة.
* نأتي الآن إلى سوريّا التي تعاني - باستثناء الساحل - من شحّ المياه وقلّة الأمطار ومن هنا أهميّة كل بئر وكل نهير وكل نبع وكل قطرة. إذاً الماء مصدر الثروة الأساسي وتبقى قيمة الأراضي الغير مسقيّة ثانويّة بينما نشاهد التجمّعات السكّانيّة في الواحات كما في تدمر وقرى القلمون ودمشق طبعاً.
مياه واحة دمشق عزيزة خصوصاً في سنين الجفاف وترتّب على ذلك نزاعات بين القرى أدّت أحياناً إلى العنف. ما هي الوسائل المستعملة لتسوية خلافات من هذا النوع؟
اعتمد الناس على العادات الموروثة والفقه والمحاكم الشرعيّة التي استعيض عنها بمحاكم الشرطة بعد انقلاب جماعة الاتّحاد والترقّي ضدّ السلطان عبد الحميد عام ١٩٠٨. لجأ الخصوم أحياناً إلى التحكيم الذي طالما وفّر عليهم الكثير من الوقت والمال وعادة ما يحاول الوسطاء إيجاد حلّ توافقي بين التقاليد المتوارثة والوضع الراهن.
نجح المستشرق الفرنسي Tresse بالحصول على وثيقة يتيمة كمثال على حكم شرعي يعيد الأمور إلى ما كانت عليه في الماضي. تتعلّق هذه الوثيقة بخلاف على مياه نهر الأعوج بين سكّان الحسينيّة (جنوب السيّدة زينب) من جهة وسائر المستفيدين من الأعوج من جهة ثانية. التاريخ الخامس من جمادى الآخر ١٢٦٣ (الحادي والعشرين من أيّار عام ١٨٤٧), جرى التحرير بمعرفة المفتي ولجنة مكوّنة من القاضي والأعيان وموظّفيّ المحكمة الشرعيّة. جاء القرار ضدّ الحسينيّة التي جرّ أهلها الماء من النهر بطريقة غير قانونيّة وبناءً عليه أغلق المجرى الذي فتحوه ووزّعت نسخة من كتب المحكمة على كلّ من القرى المعنيّة. الصورتان الملحقتان لإحدى هذه النسخ (تلك التي حصل عليها Tresse). تمّ توزيع المياه على النحو الآتي:
- المعضّميّة: ٢٦،٥ قيراط.
- مزرعة القصور (؟ّ): ٢٦،٥ قيراط.
- داريّا وملحقاتها: ١٠٣ قيراط.
- الجديدة (جديدة عرطوز؟) ٢٩ قيراط.
- صحنايا: ٣٢ قيراط.
No comments:
Post a Comment