تمتزج الحقيقة بالأسطورة في تاريخ "الصليب الحقيقي" الطويل أو ما دعاه البعض "صليب الصلبوت" الذي اعتبر من أثمن ذخائر المسيحيّة على مرّ العصور. يرجع البعض الصليب إلى بدء الخليقة كما في هذه القصة المصوّرة بقلم Yves Duval وريشة Fernand Cheneval التي نشرت في العدد الرابع عشر من العام ١٩٥٨ (الثاني من نيسان) من مجلّة tintin البلجيكيّة. سلّم المؤلّفان بأنّ القصّة على الأرجح خياليّة ولكنّهما اعتبراها مع ذلك جميلة ومؤثّرة وأكثر من جديرة بالرواية.
كانت البداية في غصين من الجنّة يحمل براعماً خضراء زرعه شيث على قبر أبيه آدم. مرت السنوات ونيت على قبر أبي البشر شجرة عظيمة لفتت نظر الملك (النبي) سليمان بعد أكثر من ألفيّ عام فأمر بقطعها ليستعمل خشبها في هيكله في القدس بيد أنّ الأخشاب كانت من الحجم والوزن بحيث تعذّرت زحزحتها وبناءّ عليه اكتفى سليمان باستعمالها في بناء جسر فوق بحيرة.
نأتي الآن إلى زيارة بلقيس ملكة سبأ لسليمان وكان من المفترض أن تعبر الجسر ولكنّها أبت أن تطأ قدماها الخشب المقدّس الذي سيحمل يوماً ما فادي العالم. اضطرب سليمان لرؤيا بلقيس ولكنّه امتثل لرغبتها وأمر بتقطيع الأخشاب وخزنها في عنابر قصره.
تنقطع الرواية هنا إلى القرن الأوّل للميلاد وعصر طيباريوس وبيلاطس البنطي عندما اتّخذ القرار بصلب يسوع الذي ساهم فيه الفريسيّون عندما دلّوا معذّبيه على مكان تخزين الخشب؛ ليس ذلك فحسب بل قاموا بدفن الصليب لإخفاء آثاره بعد أن أنزل جثمان المسيح عنه. بنى الإمبراطور Hadrian على نفس الموقع (جلجثة) معبداً للزهرة ربّة الحبّ عام ١٢٠ للميلاد.
عانى المسيحيّون من الاضطّهاد الروماني بدرجات متفاوتة في القرون الثلاث الأولى للميلاد بيد أنّ الوضع تغيّر في مطلع القرن الرابع عندما تجلّى الصليب في السماء أمام قسطنطين الكبير (رؤيا وحلم قسطنطين) مبشّراً بالنصر المبين على غريمه Maxentius. تلى ذلك مرسم ميلانو عام ٣١٣ الذي سمح بحريّة العبادة في الإمبراطوريّة الرومانيّة ويقال أنّ قسطنطين اعتنق المسيحيّة وقبل المعموديّة تحت تأثير أمّه القدّيسة هيلانة التي أمّت الديار المقدّسة في محاولة منها للعثور على الصليب الحقيقي.
استدعت القدّيسة هيلانة فور وصولها القدس جمعاً من أحبار اليهود وأنّبتهم لإدانتهم المسيح وانتزعت منهم - تحت التهديد والتعذيب والسجن - سرّ موضع الصليب الحقيقي ولكن التنقيب - ويا للحيرة - أسفر عن ثلاثة صلبان فكيف العمل لتمييز الحقيقي عن الصليبين الآخرين؟ أمرت هيلانة بجلب جثّة وووضع الصلبان الثلاثة عليها بالترتيب وبالفعل دبّت الحياة في الميّت بمجرّد ملامسة جسده للصليب الحقيقي.
تنتهي هنا القصّة في tintin ولكن الصليب عاش - في مخيّلة الناس على الأقلّ - عديداً من القرون بعدها ويظهر مجدّداً في القرن السابع للميلاد عندما استحوذ عليه إمبراطور إيران كسرى الثاني عام ٦١٤ ثمّ عندما هزم هرقل Heraclius إمبراطور بيزنطة الفرس وأعاد الصليب إلى القدس عام ٦٣٠.
تستمرّ رحلة الصليب بعد الفتح الإسلامي ويقال أنّ مسيحييّ القدس قاموا بإخفائه عندما أمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بتدمير كنيسة القيامة عام ١٠٠٩ وبقي غائباً عن العيان حتّى الحملة الصليبيّة الأولى عندما أخضع أوّل بطرك لاتيني للمدينة الكهنة الأرثوذوكس للتعذيب ليجبرهم على الاعتراف بالمكان الذي أخفوا فيه الصليب (كما يفترض أنّ القدّيسة هيلانة فعلت مع اليهود).
أصبح الصليب في حوزة المسلمين بعد انتصار صلاح الدين في حطّين وفتحه القدس. أمر السلطان الأيّوبي بالطواف بالصليب منكّساً في أزقّة دمشق وكما هو معروف ردّت أوروبّا بحملة صليبيّة ثالثة استطاع خلالها ملك إنجلترا ريكاردوس قلب الأسد استرداد عكّا وأسر حاميتها.
حاول صلاح الدين أن يفتدي الأسرى ولكن المفاوضات طالت بينه وبين قلب الأسد الذي عيل صبره فأمر بضرب أعناقهم (٢٧٠٠) أمام سمع وبصر المسلمين الذين عجزوا عن اختراق خطوط الصليبييّن ونجدة بني دينهم. كان هذا أكثر ممّا يمكن لصلاح الدين احتماله فأصدر تعليماته بقتل أسراه من الإفرنج؛ ليس ذلك فحسب بل أمر أن يدفن صليب الصلبوت - أو ما تبقّى منه - تحت مدخل جامع دمشق الكبير (لا بدّ أنّ المقصود باب البريد المدخل الغربي للجامع) كي يدوس عليه المؤمنون كلّما دخل أحدهم الجامع بقصد الصلاة.
فاوض السلطان الأيّوبي الكامل فرسان الهيكل خلال الحملة الصليبيّة الخامسة (١٢١٩) ووعدهم بإعادة الصليب الحقيقي لقاء فكّ الحصار عن دمياط ولكنّ الصليب لم يكن في حوزته وتتفّق أكر من رواية أنّه رؤي للمرّة الأخيرة في دمشق باستثناء قطع صغيرة من خشبه في القسطنطينيّة نهبها الإفرنج في الحملة الصليبيّة الرابعة عندما استباحوا العاصمة البيزنطيّة (١٢٠٤) ووزّعوا خشب الصليب الثمين في أديرة وكنائس أوروبّا. مع نهاية العصور الوسطى تكاثرت ذخائر الصليب الحقيقي في كنائس الغرب إلى درجة أنّ المصلح الديني Jean Calvin علّق ساخراً أنّ فيها من الخشب ما يكفي لملء سفينة (الإنجيليّون أو البروتسانت بشكل عامّ أقلّ تعلّقاً بكثير بالذخائر من الكاثوليك والأرثوذوكس وهم في هذا أقرب إلى اليهود والحنابلة والوهّابييّن).
John Robinson. Dungeon, Fire and Sword. The knights Templars in the Crusades
Robert Payne. The Dream and the Tomb. A History of the Crusades.
No comments:
Post a Comment