Monday, November 19, 2018

خلفيّة ١٨٦٠



خلافاً لما تروّجه الكتب المدرسيّة السوريّة، تفاوت التعايش بين المذاهب والطوائف على مدى التاريخ بين التسامح النسبي في أحسن الأحوال إلى المذابح الجماعيّة والإبادة عندما يسود التطرّف والتشنّج ولم يكن الحال أبداً جنّة من الوئام والانسجام لا في سوريا ولا في العالم العربي أو الغربي. هذا التعميم ينطبق على العهود المسيحيّة والإسلاميّة ففي العهد البيزنطي مثلاً قتل الأبرياء بالجملة بسبب الخلاف على طبيعة المسيح والثالوث ولا تحتاج حروب السنّة والشيعة اللامتناهية إلى التعريف. هذا عن الاقتتال بين المذاهب أمّا عن الصراع بين الديانات فحدّث ولا حرج. لربّما كانت الديانات النوحيديّة بالذات الأقلّ تسامحاً والأكثر احتكاراً لمفاهيم الحقّ المطلق والباطل المطلق. 

لدينا حالة جديرة بالدراسة ألا وهي ما يسمّيه البعض بالفسيفساء السوريّة. تاريخ بلاد الشام مغرق في القدم وشديد الغنى بتراثه الديني -بحلوه ومرّه- وهو في نهاية المطاف جزء لا يتجزّأ من التراث الفكري. اختارت الدكتورة ليلى طرزي فوّاز  (١) من جامعة Tufts دراسة فتنة ١٨٦٠ بالتفصيل في كتاب (٢) صدر عام ١٩٩٤ في وقت كانت فيه الحرب الأهليّة اللبنانيّة ١٩٧٥-١٩٩٠ حديثة العهد. الكتاب سياسي بالدرجة الأولى ويعتمد إلى حدّ كبير على مصادر معاصرة للأحداث منها المحليّة ومنها (خصوصاً) الغربيّة. قبل الدخول في أحداث هذه المأساة التي بدأت في جبل لبنان وامتدّت إلى دمشق يحسن أن نستعرض خلفيّاتها التاريخيّة والاقتصاديّة.  

ربطت علاقات وديّة السلطان سليمان القانوني مع ملك فرنسا  François الأوّل في النصف الأوّل من القرن السادس عشر نجم عنها نظام الامتيازات Capitulations التي تمتّع بها الفرنسيّون المقيمون في الإمبراطوريّة العثمانيّة بحماية بلادهم القانونيّة ومع مرور الزمن حصلت بقيّة القوى الأوروبيّة على امتيازات مماثلة. كان هدف القسطنطينيّة في البداية تشجيع التبادل التجاري بين الغرب والشرق ونجحت في هذا عندما كانت في عنفوان قوّتها ولكن الوضع اختلف عندما دبّ الضعف في الدولة العثمانيّة وازداد التغلغل الأوروربي إلى درجة منح الأقليّات الدينيّة المحليّة في الشرق الأدنى الامتيازات التي تمتّع بها الأوروبيّون دون سواهم فيما مضى وبالنتيجة زاد ثراء هذه الأقليّات (المسيحيّة خصوصاً) تحت الحماية الأوروبيّة. نصبت فرنسا نفسها مدافعاً عن الكاثوليك والموارنة وروسيا الأورثوذوكس وبريطانيا الدروز والبروتستانت وأمريكا البروتستانت وهلمّجرّا. استاء كثير من المسلمين -بحقّ وبغير حقّ- من صعود الأقليّات السلّم الاقتصادي والسياسي علناً وعلى رؤوس الأشهاد وبمساعدة من اعتبروهم أعدائهم التاريخييّن.    

هذا على الصعيد الدولي فماذا عن المستوى المحلّي؟ 

يشكلّ جبل لبنان (أي سلسلة جبال لبنان الغربيّة وليس كيان لبنان الجغرافي-السياسي كما نعرفه حاليّاً) حالة خاصّة فهو تاريخيّاً معقل الدروز حتّى أنّ فسمه الجنوبي دعي في الماضي جبل الدروز قبل أن تنتقل التسمية إلى جبل حوران. ساد الدروز إذاً جبل لبنان تحت المعنييّن وأشهرهم الأمير فخر الدين المعني الثاني (١٥٩١-١٦٣٥) الذي تعاون مع الموارنة (آل الخازن خصوصاً) وشجّع هجرتهم إلى جبل لبنان هو ومن تلاه من الأمراء. استمرّ التعاون بين الموارنة والدروز (ثمّ السنّة) طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر وكانت الخلافات شخصيّة وقبليّة وليست دينيّة ومذهبيّة فعلى سبيل المثال اقتتل القيسيّون واليمانيّون من الدروز في معركة عين دارة عام ١٧١١ التي نجم عنها هزيمة اليمانييّن ونزوحهم إلى جبل حوران الذي أصبح بعدها جبل الدروز الثاني إذا جاز التعبير. 

احتكر المعنيّون إمارة جبل لبنان حتّى عام ١٦٩٧ عندم حلّ محلّهم الشهابيّون وهؤلاء في الأصل مسلمين سنّة ولكن العديد منهم اعتنق لاحقاً الديانة المسيحيّة والمذهب الماروني وأشهرهم بالطبع الأمير بشير الثاني (١٧٨٩-١٨٤٠). تعاون بشير الشهابي في البداية مع الدروز ولكنّه كان يطمح إلى التفرّد بزعامة الجبل ودفعه هذا إلى الغدر بالزعيم الدرزي الشيخ بشير جنبلاط الذي قتل بمكيدة وتدبير بشير الشهابي. الخلاف كان على الزعامة ولا علاقة له بالدين أو المذهب وتصرّف الأمير بشير هو تصرّف جميع بناة الممالك والإمبراطوريّات الذين يحسنون فنّ الحرب والسلم مع المساومة والتسامح إذا اقتضى الأمر والقتل دون رحمة أو وازع من ضمير عند الضرورة. 

ما كان للدروز أن ينسوا أو يغفروا قتل رئيسهم بغضّ النظر عن دوافع الأمير بشير وزاد الطين بلّة لجوء الشهابي لاستعمال قطعات مسيحيّة لقمع تمرّد دروز حوران على حليفه ابراهيم باشا المصري فيما بعد. 

علاوة على كلّ ما سبق لدينا العوامل الديموغرافيّة والاقتصاديّة. مع حلول القرن التاسع عشر ازداد عدد المسيحييّن في جبل لبنان نسبة للدروز وازدادت معه قوّتهم الاقتصاديّة. 

للحديث بقيّة.  

اللوحة على غلاف الكتاب تمثّل الدروز والبدو يسبون النساء ويقتلون كاهناً مارونيّاً.


1. https://ase.tufts.edu/history/faculty/fawaz.asp

2. https://books.google.com/books?id=nE7RjS91_E4C&printsec=frontcover&source=gbs_ge_summary_r&cad=0#v=onepage&q&f=false

No comments:

Post a Comment