Thursday, November 22, 2018

طوشة النصارى



تحديد هويّة من اعتدى على من في دمشق عام ١٨٦٠ أسهل بكثير منه في جبل لبنان. تمتّع مسيحيّو لبنان وخصوصاً الموارنة بتفوّق عددي وكانوا مسلّحين شأنهم في ذلك شأن الدروز بغضّ النظر عن هزيمتهم في المعارك وعن دمار قراهم التي هلك فيها كثيرون معظمهم من الأبرياء. بالمقابل مسيحيّو دمشق كانوا أقليّة عزلاء لا ناقة لها ولا جمل في حرب لبنان اقتصرت "ذنوبهم" على معتقداتهم وازدهارهم الاقتصادي النسبي واستياء المسلمين من تنظيمات القرن التاسع عشر العثمانيّة (وقبلها إجراءات ابراهيم باشا في الثلاثينات من نفس القرن) التي أعطتهم حقوقاً كانت في الماضي حكراً على المسلمين وأخيراً -وليس آخراً- حماية الأوروبييّن لهم أو على الأقلّ المتاجرة بحمايتهم. 

بالمقابل لا يوجد دليل  مقنع على تواطؤ أحمد باشا والي دمشق في المأساة وضلوعه في المذبحة رغم كلّ ما كتب في الصحافة الأوروبيّة المولعة دائماً وأبداً بالتقليل من شأن العثمانييّن -جميع العثمانييّن- وتحميلهم مسؤوليّة كلّ بلايا الشرق الأدنى. ما لا شكّ فيه أنّ زمام الأمور أفلت بسرعة غير متوقّعة عن سيطرة أحمد باشا الذي تفاعل إجمالاً مع الأحداث بعد وقوعها عوضاً عن أن يستبقها. يمكن للمراقب المنزّه في أسوأ الأحوال أن يتّهمه بالإهمال وبأنّه -شأن كثير من أقرانه وقتها- كان الرجل الغير مناسب في المكان غير المناسب في الوقت غير المناسب. 

أودّ منذ البداية إيضاح رأيي الشخصي في طبيعة المأساة لإزالة كلّ التباس (١): المجزرة طائفيّة بامتياز بغضّ النظر عن الخلفيّات والعوامل المساهمة. مع خالص احترامي لجميع من ينفي الدوافع الطائفيّة للمجزرة أو يحاول تقليل دورها, عندما ينتمي جميع الجناة لطائفة أو طوائف معيّنة ويكون جميع الضحايا من طائفة أو طوائف ثانية ويكون عددهم بالآلاف فالجريمة طائفيّة ومحاولة تبريرها بغير ذلك مجرّد سفسطة. هل يتقبّل المسلمون -حتّى اليوم- تبرير طرد أسلافهم من إسبانيا بأعذار تنفي العامل الديني؟ّ! يقول المثل الإنجليزي: If it looks like a duck, swims like a duck, and quacks like a duck, then it probably is a duck إذا كان لكائن ما منظر البطّة وإذا سبح كالبطّة وأصدر أصواتاً كالبطّة فعلى الأغلب يكون بطّة. 

فلننظر الآن إلى التسلسل الزمني.

أمّ العديد من اللاجئين المسيحييّن دمشق فراراً من مجازر جبل لبنان بما فيهم أهل الزبداني (١٣ حزيران) الذين أصابهم الهلع والناجون من راشيّا وحاصبيّا ومعظمهم من النساء والأطفال وانضمّ إليهم كثير من الفلّاحين الهاربين من مناطق لم تعد الطرقات المؤدّية إليها آمنة. نتج عن هذا ضائقة في الحيّ المسيحي رغم عون الكنائس والقنصليّات الأجنبيّة وبعض فاعلي الخير من المسلمين وعلى رأسهم الأمير عبد القادر الجزائري. بالنسبة لدهماء المدينة فقد ساء كثير منهم مشهد النازحين البائس في الطرقات عوضاً أن يثير تعاطفهم ولم يخفى التوتّر المتزايد عن ممثلّي أوروبا الذين مارسوا الضغط على أحمد باشا لضمان حماية المسحييّن وطمأنهم هذا الأخير أنّ الأمن مستتبّ وأنّه يستطيع السيطرة على الوضع. أتبع الوالي الأقوال بالأفعال وقام بتعزيز حماية الحيّ المسيحي ونصب المدافع على أسوار القلعة وأمام الجامع الأموي إضافة إلى منع بيع الأسلحة لأطراف النزاع في لبنان. 

اندلعت الشرارة التي أشعلت نيران الفتنة في ٨ أو ٩ تمّوز عام ١٨٦٠ عندما تحرّش بعض الصبية المسلمين بالمسيحييّن بتجاوزات تافهة (كانت كما تبيّن لاحقاً أكثر من كافية في الجوّ المشحون آنذاك) من نوع ربط صلبان في ذيول الكلاب أو تعليقها قلادة على رقبة الحيوانات وهلمّجرّا. تلخّص ردّ فعل المسيحييّن بوفد من وجهائهم (حنّا فريج وأنطون شاميّة ومتري شلهوب) إلى أحمد باشا للشكوى من تصرّف الأولاد واستجاب الوالي بالقبض على الفعلة وتكبيلهم بالأصفاد وإرسالهم مخفورين مع مهمّة سخرة لكنس الحيّ المسيحي. 

ليست معاقبة الصبية بهذا الشكل العلني (اعتبرها المسلمون إذلالاً لا مبرّر له) أو الاكتفاء بتوبيخهم من وراء الكواليس لبّ القصيد. الموضوع كان ببساطة محاولة الباشا ردع الغوغاء وإعطاء عبرة لمن تسوّل له نفسه الإخلال بالأمن عن طريق قصاص الأولاد دون أن يكون لديه القوّة أو الجرأة الكافية لمواجهة تمرّد عامّ وقمعه برباطة جأش ودون رحمة إذا تطلّب الأمر.  سار الجنود مع الأسرى في شوارع دمشق وخلال فترة قصيرة التفّ الناس حولهم وطالبوهم بفكّ أغلال اليافعين وعندما رفضوا ضربوهم وأطلقوا سراح المشاغبين عنوة ورفعوا عقيرتهم بالصراخ لتأليب الحشود ضدّ المسيحييّن. انتشرت الشائعات في المدينة انتشار النار في الهشيم وتدفّق رعاع أحياء الصالحيّة والشاغور والميدان والقرى المحيطة بما فيهم الأكراد ودروز جرمانا على الحيّ المسيحي. لم يستثن السعار الجنود -نظامييّن وغير نظامييّن- الذين انضمّوا إلى أوباش المدينة عندما فقد ضبّاطهم السيطرة عليهم. 

أحرقت الكنيسة المريميّة فأصبحت قاعاً صفصفاً مع بقيّة الحيّ المسيحي الذي قام أشباه البشر "بتعفيشه" قبل أن يضرموا فيه النار. انتهكت البعثات التبشيريّة الغربيّة ودمّرت القنصليّات الروسيّة والفرنسيّة والهولنديّة و النمساويّة والبلجيكيّة والأمريكيّة بينما نجت الإنجليزيّة (شمال الأموي) والبروسيّة (قرب سوق الأروام) لبعدها عن مسرح الأحداث ليس إلّا. عدد القتلى يتفاوت كثيراً حسب المصدر من ٥٠٠ إلى عشرة آلاف ناهيك عن سبي نساء وأطفال أجبروا على "اعتناق" الإسلام. نجا الدكتور ميخائيل مشاقة بأعجوبة ومزيج من غريزة الحياة وسعة الحيلة وعون الأمير عبد القادر أمّا هذا الأخير فقد بذل قصارى جهده لحماية المسيحييّن وفتح لهم بيته الذي طوّقه المخبولون قبل تشتّتهم عندما هدّدهم بطل الجزائر المدعوم بعسكره المغاربة المرهوبيّ الجانب بإطلاق النار. 

احتمى المسيحيّون بالقلعة وهرب بعضهم من دمشق إلى دير صيدنايا الذي هاجمه المتمرّدون دون نجاح. استمرّ القتل والنهب ثمانية أيّام متتالية زال الحيّ المسيحي خلالها من الوجود. طال الدمار كافّة البيوت المسيحيّة عمليّاً باستثناء الواقعة منها خارج الحيّ القديم (قام آل المهايني والعابد على سبيل المثال بحماية مسيحييّ الميدان). 

يستمرّ البعض بعد مرور قرن ونصف على الكارثة بالتوكيد أنّ مجزرة ١٨٦٠ لم تكن في جوهرها طائفيّة وليس هذا في اعتقادي إلّا محاولة محزنة ولربّما لا شعوريّة لإلقاء اللوم على الغير وإفراغ كلمة "طائفيّة" من أي معنى أو مدلول من الناحية اللغويّة. 

للحديث بقيّة. 


1. http://bornindamascus.blogspot.com/2017/06/1860_7.html

2. https://books.google.com/books?id=nE7RjS91_E4C&printsec=frontcover&source=gbs_ge_summary_r&cad=0#v=onepage&q&f=false

3. http://bornindamascus.blogspot.com/2018/11/blog-post_19.html

4. http://bornindamascus.blogspot.com/2018/11/blog-post_20.html

5. http://bornindamascus.blogspot.com/2018/11/blog-post_21.html

  

No comments:

Post a Comment