Wednesday, November 7, 2018

عن "اتّفاقيّة" بناء الجامع الأموي




لا غرابة في تحويل الأوابد الدينيّة من معابد وثنيّة إلى كنائس ومن كنائس لجوامع (آيا صوفيا في القسطنطينيّة مثلاً) ومن جوامع لكنائس (المثال الأشهر جامع قرطبة) وأمّا عن هدم الأوابد الدنيويّة (القصور والحصون) وتحويلها لاستعمالات جديدة لخدمة أسياد جدد فالأمثلة لا تعدّ ولا تحصى. 

لدينا أكثر من مثال في دمشق عن جوامع يعتقد أنّها حلّت محلّ كنائس كجامع الأقصاب وجامع تنكز وبالطبع يبقى جامع الوليد الأموي أهمّ هذه الأمثلة على الإطلاق وأدلّة وجود كنيسة شغلت قسماً من موقعه أكثر من كافية في كتابات المؤرّخين والآثار على الموفع. السؤال هنا عن كيفيّة استحالة كنيسة يوحنّا المعمدان إلى الجامع الأموي وليس الجواب بالسهل في حدث مغرق في القدم كهذا لا توجد كتابات معاصرة تتعرّض إليه. 

يقول الدكنور عفيف بهنسي صفحة ٤٦ من كتابه عن الجامع الأموي بالفرنسيّة أنّ الوليد باشر ببناء الجامع عام ٧٠٥ بعد اتّفافيّة أحراها مع المسيحييّن في دمشق. ما هي طبيعة هذه "الاتّفاقيّة"؟ أو بالأحرى هل تصحّ تسمية ما حدث بالاتّفاقيّة على الإطلاق؟

لا سبيل للإجابة بدقّة على سؤال شائك من هذا النوع فجميع الكتابات التي نملكها تعود إلى العهد العبّاسي المعادي للأموييّن، عهد تزايد فيه عدد المسلمين في المدينة إلى درجة تسمح بإعادة كتابة التاريخ بمفعول رجعي تبدوا من خلاها التطوّرات التي أدّت لأخذ الأمور مساراً معيّناً محتومة وقدريّة لا انحراف عنها. 

غاية ما نستطيعه قراءة ما كتبه الأقدمون أوّلاً، ثمّ محاولة استفراء وتحليل هذه الكتابات ثانياً.  تاريخ دمشق لابن عساكر (مات ١١٧٦ للميلاد) هو الأشهر والأكثر تفصيلاً ويقول فيه (بداية من صفحة ٢٦٠ من الرابط) أنّ الوليد طرد راهباً من صومعته ثمّ باشر بهدم مذبح الكنيسة بمعوله بينما "صاح النصارى وولولوا" وبعدها كتب الخليفة إلى "الطاغبة" أي الامبراطور البيزنطي يأمره فيها أن يرسل إليه مئتي صانع من صنّاع الروم وإلاّ "غزوتك بالجيوش وأخربت الكنائس في بلدي وكنيسة بيت المقدس وكنيسة الرها وسائر آثار الروم في بلدي" أمّا عن الكنائس التي "أعطاها" الوليد للمسيحييّن تعويضاً عن كنيسة يوحنّا (حميد بن درّة وكنيسة سوق الجين والمريميّة والمصلّبة) فهي بالأصل كنائس والتعبير الأصحّ ليس "أعطاها" وإنّما "تركها". 

ما كتبه ابن عساكر يعكس أوضاع القرن الثاني عشر للميلاد وليس مطلع الفرن الثامن أو أواخر القرن السابع عندما كان المسيحيّون أغلبيّة في دمشق وكانت الحرب مع بيزنطة سجالاً اضطرّ خلالها أكثر من خليفة أموي لدفع الجزية للقسطنطينيّة ليتفرّغ لحروبه الداخليّة ضدّ ابن الزبير وأشياع علي. هل هناك مرجع أقدم من ابن عساكر؟

الردّ هنا بالإيجاب ويخبرنا الدكتور بهنسي عن رواية ابن الفقيه صاحب كتاب البلدان (أنجز عام ٢٩٠ للهجرة الموافق ٩٠٢ للميلاد أي أنّه سبق ابن عساكر بأكثر من قرنين من الزمن) ولكنّها لا تختلف في جوهرها عن رواية ابن عساكر وإن شحّت بالتفاصيل (من المسلّي أنّه كلّما ابتعدنا زمنيّاً عن الحدث كلّما زادت الدقّة مع التفصيل والتنميق). يقول ابن الفقيه في هذا الصدد أنّه عندما حذّر النصارى الوليد من مغبّة هدم الكنيسة أجابهم "فأنا أوّل من يهدمها" ثمّ "هدمها بيده وهدم الناس معه" وفي مكان آخر "وهدم الوليد عشر كنائس واتّخذها مسجداً".  

يضيف الدكتور بهنسي (صفحة ٤٩) أنّ الوليد هدم الكنيسة بعد أن "سمح للمسيحييّن ببناء  غيرها" دون ذكر المصدر اللهمّ إلّا إذا كان المقصود "ببناء" هو "عدم هدم". 

أستطيع أن أتفهّم الحدود التي يعمل ضمنها المؤرّخون وتوخّيهم مراعاة حساسيّات معيّتة وحتّى المغالاة في التعليل والتبرير والتفسير  ولكن من الصعب تقبّل اختراع الأحداث من العدم وتحميل الكلام أكثر ممّا يحتمل وإلّا فقدت اللغة معناها وأمكن لأي إنسان أن يأوّل أي عبارة لتعزيز أي وجهات نظر حتّى المتناقضة منها. 

مشكلتنا ليست مع المصادر التاريخيّة على محدوديّتها وإنّما في إساءة استعمال هذه المصادر لأهداف سياسيّة أو دينيّة وما أصعب فصل الدين عن السياسة. 


No comments:

Post a Comment