أدان الفكر العروبي عموماً والبعثي خصوصاً ما أسماه بالنعرات الطائفيّة والعشائريّة والإقليميّة وذهب في ذلك إلى درجة تجاهل وجود الفروقات المذهبيّة تماماً في خطاب الدولة الرسمي لعشرات السنوات وحتّى اليوم. لا شكّ أنّ مفكّريّ الأحزاب العروبيّة فعلوا ذلك عن حسن نيّة والمعضلة هنا أنّ الادّعاء بعدم وجود شيء ما لا يلغيه ولمجرّد أنّك لا تريد الكلام عنه لا يعني بالضرورة أنّ الغير سوف يجاملك ويرضى بالمنافسة على ملعب تختاره أنت. كانت النتيجة مع الأسف أنّ جميع ما كتب عن التركيبة الديموغرافيّة السوريّة عمليّاً كتب من قبل جهات عربيّة أو أجنبيّة بعضها على الأقلّ مغرضة وأضيف لهم مؤخّراًَ أصوات محليّة ارتفعت بشدّة اعتباراً من ٢٠١١.
أحداث سبعينات وثمانينات القرن الماضي لا تزال ماثلة في ذاكرة من تجاوز سنّاً معيّنة منّا ولا داعي للتذكير بخطابات الرئيس المصري الراحل أنور السادات ولا بإذاعة "صوت سوريا العربيّة من العراق" التي بذلت ما في وسعها لتأجيج الفتنة الطائفيّة آنذاك. أقتصر هنا على مثال وحيد من شخص لم أشكّ يوماً بوطنيّته وإخلاصه ألا وهو الصحفي المصري الكبير الراحل محمّد حسنين هيكل الذي كتب في الصفحة ٤٤١ من كتاب الانفجار (عن حرب ١٩٦٧) بالحرف الواحد ما يلي:
كانت هناك مجموعة من خمسة من الضبّاط كانوا جميعاً أثناء الوحدة مبعدين في القاهرة وفيها شكّلوا ما أسموه باللجنة العسكريّة السريّة التي بدأت تخطّط لدور مقبل لها في سوريا وكان الخمسة من العلوييّن وهم بترتيب ما بدا من أهمّيتهم في ذلك الوقت: محمّد عمران وصلاح جديد وعبد الكريم الجندي وأحمد المير وحافظ الأسد.
لا يخفى على العالمين بالأمور السوريّة أنّه لا المير ولا الجندي ينتميان للطائفة العلويّة والهدف من الاستشهاد بالأستاذ هيكل هنا بكل بساطة أنّه عندما يرتكب مثقّف عربيّ من أرفع المستويات خطأً من هذا النوع وبهذا الحجم فلا عتب على عامّة الناس ومسؤوليّة التقصير تقع في نهاية المطاف على إعلام سوريا والناطقين باسمها الذين عاشوا وما يزالون في برج عاجيّ لربّما بدافع العزوف عن الانحطاط إلى درك مهاترات من هذا النوع أو -وهو الأرجح- كونهم غير مؤهّلين للإجابة على خصومهم لسبب أو لآخر.
لم يتردّد الكثيرون من الغربيّين في الكتابة عن التركيبة السوريّة ومنهم العالم الجغرافي الفرنسي Richard Thoumin. الرجل أكاديمي وموضوعي إلى الدرجة التي تسمح بها خلفيّته (بالنهاية ليس أيّ منّا منزّهاً عن الأهواء والأفكار المسبقة). المقال قيد المراجعة يعود لعام ١٩٣٧ (الرابط وثبت المراجع أدناه) في وقت قدّر فيه Thoumin عدد سكّان دمشق بربع مليون نسمة.
أرجع المؤلّف أصول ثلاثة أرباع سكّان دمشق إلى مصدرين: الأوّل هو سكّان المدينة الذين كان معظمهم على الدين المسيحي قبل الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع للميلاد وبالطبع اعتنق كثيرون منهم الإسلام لاحقاً وإن جاز القول أنّ الأغلبيّة الساحقة من المسيحييّن اليوم تتحدّر منهم. المصدر أو الأصل الثاني هو العرب الفاتحين ولا تزال كثير من العائلات المسلمة تفتخر بانتسابها إلى هذا الشريف أو ذاك السيّد إلى اليوم (حتّى أمد قريب كان نقيب الأشراف المرجع فيما يتعلّق بالحسب والنسب). أضيفت لاحقاً عناصر نركيّة خصوصاً في العهد العثماني الذي طال أربعة قرون ولكن أعداد الأتراك كانت قليلة نسبيّاً اقتصرت عمليّاً على الموظّفين والعسكر وذرّيّتهم وامتزجت بأهل دمشق دون محاولة جدّيّة للانعزال في أحياء معيّنة.
للحديث بقيّة.
Thoumin, R. (1936). Géographie humaine de la Syrie centrale, Paris: Librairie Ernest Roux.
No comments:
Post a Comment