Thursday, June 4, 2020

دمشق كنموذج لمشكلة المدينة القديمة في البلاد العربيّة


كتب الدكتور عفيف بهنسي مقالاً بطول ٢٣ صفحة عن تاريخ وتطوّر المدينة العربيّة والتحدّيات المعاصرة التي تواجهها. نشر هذا المقال في العدد الرابع والعشرين للحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة الصادر عام ١٩٧٤ عندما شغل منصب المدير الاعمّ للآثار والمتاحف.

من المدن العربيّة ما أنشىء من الصفر -وإن جاور مواقع أثريّة معروفة ومشهورة- كبغداد وسامرّاء وبهذا استطاع البناة التحكّم بهيئة وتخطيط الحاضرة الجديدة ولو إلى حين أمّا بالنسبة لدمشق فيختلف الموضوع اختلافاً جذريّاً في موقع مأهول منذ آلاف السنين حدّ من توسّع نسيجه العمراني عبر التاريخ جبل قاسيون إلى الشمال وواحة الغوطة والبادية المحيطة بها من بقيّة الجهات.

لا داعي للدخول في تفاصيل تطوّر المدينة منذ العهد الآرامي مروراً بالروماني وحتّى الفتح العربي الإسلامي فهذا يتطلّب عشرات الصفحات على أقلّ تقدير ولكن لفت نظري بالذات قول الدكتور بهنسي أنّ المدينة القديمة لم تستطع مقاومة المدينة الرومانيّة بعد عام  ٦٤ قبل الميلاد (الفتح الروماني لسوريا) وتضائلت أهمّيتها عندما نزح السكّان إلى قرى الغوطة الآراميّة (كفر بطنا وحرستا ودوما وداريّا). لا أعلم على ماذا استند العالم الراحل في هذه المقولة.

إذا قفزنا ٢٠٠٠ سنة إلى القرن العشرين نواجه تفاقم المشكلة الديموغرافيّة بشكل لم يسبق له مثيل وليس هذا بالطبع مقصوراً على دمشق ولا على سوريا. قدّر الكاتب عدد سكّان المدينة عام ١٩٦٠بحوالي ٤٩٠٠٠٠ نسمة وارتفع الرقم إلى قرابة  ٨٣٠٠٠٠ عام ١٩٧٠ وإجمالاً ازداد السكّان بنسبة ١٢٪ في العام الواحد وليس المرء بحاجة لمواهب الأنبياء والعرّافين ليقدّر حجم ضغط نموّ متسارع من هذا النوع على مياه المدينة وواحتها الخضراء وخدماتها بشكل عامّ. 

أضف إلى الزيادة السكّانيّة زيادة متطلّبات الإنسان العصري الذي فرضته التقنيّة الحديثة ونمط الحياة الجديد. استهلاك الفرد -الغني والفقير- زاد وزادت أيضاً توقّعاته (تدفئة وكهرباء ومياه نظيفة وتصريف صحّي ومدارس عصريّة ووسائل نقل وهلمّجرّا) وحدّدت عوامل جديدة تطوّر المدينة علّ أبرزها المواصلات والسيّارات وما أسماه بهنسي "بالتخطيط الإمبريالي" الذي يسعى لتصريف بضائعه على العالم الثالث.

أدّى كلّ هذا لإهمال المدينة القديمة شيئاً فشيئاً عندما نزحت عائلات الطبقتين الموسرة والمتوسّطة إلى الضواحي الحديثة الغربيّة الطراز والأكثر راحة وموائمة للأجيال الجديدة بينما أهملت المدينة القديمة وتداعت بيوتها أو أصبحت سكناً مشتركاً لعائلات لا تملك إمكانيّة صيانتها أو مقرّاً لورشات حرفيّة. 

أدرك المسؤولون بالنتيجة مدى الخطر المحدق بالمدينة القديمة ومن هذا المنطلق صدر قانون الآثار السوري عام ١٩٦٢ بهدف حماية ما تبقّى من الأبنية الأثريّة وتحديد شروط معيّنة لترميمها والمحافظة عليها من الهدم والتخريب وتحديد طرز الأبنية الجديدة المزمع إنشاؤها ضمن النسيج العمراني التاريخي ومسح الآثار وتسجيل الأبنية إلى آخره. لنا اليوم أن نحكم على مدى نجاح هذا القانون بعد حوالي ستّين عاماً من سنّه.

لدينا اليوم -واعتباراً من تسعينات القرن الماضي- ظاهرة جديدة تتمثّل بتحويل البيوت الدمشقيّة لمطاعم وفنادق بهدف جذب الاستثمارات ورؤوس الأموال والسيّاح. لعمليّة من هذا النوع تسمية خاصّة وحديثة نسبيّاً بالإنجليزيّة ألا وهي gentrification (ترجمتها الوكيبيديا العربيّة الاستطباق) وتعني تغيير طبيعة مكان معيّن أو جوار معيّن من خلال جذب الموسرين ورجال الأعمال ويؤدّي هذا إلى رفع المستوى الاقتصادي للفضاء العمراني المستهدف ولكنّه يغيّره إلى أبعد الحدود من الناحيتين الديموغرافيّة (يهجر السكّان الأصلييّن الحيّ التجاري المستحدث في المنطقة السكنيّة عندما ترتفع نفقاتهم المعيشيّة في ظلّ الغلاء الناجم عن الظروف الاقتصاديّة الجديدة) والوظيفيّة.

الصورة أعلاه لساحة الروضة قبل عام ١٩٧٤ (أي قبل زيارة الرئيس الأمريكي Nixon دمشق عندما بنيت على شرفه البحرات الجديدة في الساحة) أمّا الثانية فهي غنيّة عن التعريف. 


No comments:

Post a Comment