لا يتردّد كثيرون وإلى يومنا هذا في تحميل مهندس العمارة الفرنسي المخطّط Michel Ecochard المسؤوليّة الأولى في القضاء على قسم كبير من النسيج العمراني لمدينة دمشق وفي زعمي أنّ الرجل بريء براءة الذئب من دم يوسف ولسبب بسيط: Ecochard (١٩٠٥-١٩٨٥) لم يكن منفّذاً وإنّما مستشاراً طلبت الجهات المعنيّة في سوريا رأيه ولم تكن يوماً ملزمة بالأخذ به، ليس ذلك فحسب وإنّما فشلت أو تقاعست عن تنفيذ تواصيه كما هي أو تعديلها بما يوائم تراث ومتطلّبات العاصمة السوريّة وليس من المبالغة القول أنّها نفّذت أسوأ بنود خطّته وأهملت النواحي الإيجابيّة فيها وهي كثيرة. الأيادي التي هدمت محليّة والأيادي التي أجهزت على الغوطة محليّة أيضاً. ولربّما كان المفيد أن نطرح هنا سؤال دبشليم الملك المتكرّر لبيدبا الفيلسوف: وكيف كان ذلك؟
حاولت السيّدة المهندسة ياسمين يعقوب الإجابة على بعض هذه الأسئلة في كتيّب باللغة الفرنسيّة بطول حوالي ٩٠ صفحة من القطع الصغير فيه عدد من الصور المأخوذة من مجموعة "دمشق بالأبيض والأسود" على فيسبوك وكميّة لا بأس بها من الخرائط الملوّنة ومع الأسف ليس الخرائط دائماً واضحة بما فيه الكفاية (الكتيّب يطبع حسب الطلب ولربّما كان الأصل الإلكتروني؟ أفضل نوعيّة) علاوة على بعض الأخطاء التي يصعب السكوت عنها (مثلاً وضع حيّ المهاجرين بين الصالحيّة غرباً وحيّ الأكراد شرقاً صفحة ٣٤). تقطيع الجمل أيضاً ليس دائماً على المستوى المطلوب وينطبق نفس الكلام على تنضيد الأسطر.
هناك إذاً بعض الهنات في الإخراج ولكنّها لا تنفي وجود الكثير من المعلومات القيّمة لمن لا يريد أو لا يملك الوقت الكافي لقراءة واستقراء المشروع الأصلي (١٧٣ صفحة ويمكن تحميله بالمجّان).
فلنبدأ بذكر ثلاث مبادىء جوهريّة في التخطيط العمراني في العالم الثالث كما عرّفتها المؤلّفة (صفحة ١٦-١٧):
أوّلاً: يجب أن تملك الدولة والمؤسّسات العامّة الموكلة بالتخطيط والتحديث القوّة الكافية وأدوات هذه القوّة لقمع المضاربات.
ثانياً: يجب تأمين سكن الفقراء والفشل في ذلك يعني انتشار العشوائيّات (نقطة هامّة للغاية أهملها مشروع Ecochard ).
ثالثاً: يجب التوفيق بين متطلّبات التحديث والتوسّع وبين عدم المساس بالتراث المحلّي خصوصاً الإسلامي (خلل آخر في خطّة العالم الفرنسي).
للتوضيح خطّة إيكوشار هي في الحقيقة خطّتان: رأت أولاهما النور عام ١٩٣٥ في عهد الانتداب الفرنسي بتشجيع من الجنرال (والأكّاديمي) الفرنسي غورو Henri Gouraud وأمّا الثانية فكانت عام ١٩٦٨ عندما استنجدت البلديّة في دمشق بالسيّد Ecochard على اعتبار أنّه "الحيلة والفتيلة" (وهو بحدّ ذاته مؤسف إن لم نقل مخز ومشين) ليأتي و"يطلّع الزير من البير". فلننظر الآن بسرعة إلى الخطوط العريضة للخطّتين.
خطّة Ecochard-Danger عام ١٩٣٥
هدفت هذه الخطّة إلى إنقاذ غوطة دمشق (في الثلاثينات أي عندما كان هذا الإنقاذ لا يزال في حيّز الإمكان) كرئة المدينة ومتنفّسها التي بلغت مساحتها وقتها ٢٥٠٠٠ هكتار وارتأى واضعيها توجيه توسّع المدينة نحو قاسيون بعيداً عن المناطق الزراعيّة والحدّ من العشوائيّات. أعطت الخطّة أيضاً الأولويّة لتطوير المواصلات المحليّة والإقليميّة وإنشاء طرق محلّقة لتجنّب دخول تجارة الترانزيت إى المدينة. من ناحية الصحّة العامّة أوصت الخطّة بتنظيم سرير بردى لمنع الفيضانات في مركز المدينة وخصوصاً المرجة كما دعت إلى كشف أهمّ المعالم الأثريّة كالقلعة وضريح صلاح الدين وبناء متحف وطني (كان للسيّد Ecochard أياد بيضاء في هذا الصدد) وسبقت بعض هذه الأعمال تبنّي الخطّة بشكل نهائي. الغاية كانت تحويل دمشق إلى مدينة-حديقة cité-jardin والملهم هو البارون Haussmann الذي يعزى إليه تصميم باريس البديع في عهد نابوليون الثالث.
خطّة Ecochard-Banshoya عام ١٩٦٨
تجاوز الزمن ظروف الثلاثينات وزاد عدد سكّان المدينة كثيراً ولعدّة أسباب كالهجرة من الريف إلى المدينة ونزوح الفلسطينييّن عام ١٩٤٨ ومن ثمّ أهل الجولان عام ١٩٦٧ ممّا أدّى لابتلاع المدينة لكثير من ضواحيها وترافق هذا بالتدريج مع توسّع قرى الغوطة لتصبح مدناً كبيرة. تطلّبت هذه المعطيات الجديدة خطّة جديدة رسمها العالم الفرنسي مع شريك ياباني كمحاولة لاحتواء تزايد السكّان وتنظيم المدينة بناء عليه حتّى عام ١٩٨٤ (من نافل القول أنّ الخطّة الثانية أصبحت أيضاً لاغية بعد انقضاء نصف قرن وإن تعامل معها البعض وكأنّها "خرطها الخرّاط ثمّ طبّ ومات"). بالنسبة لرؤوس أقلام الخطّة "الجديدة" فقد أوصت بهدف "حماية الغوطة" بتوسيع العمران إلى برزة شرقاً والمزّة غرباً (!!!) وإنشاء سدود وخزّانات لتنظيم جريان بردى وأعطت أهميّة خاصّة للمدينة داخل السور وبالذات الجزء الشمالي الغربي منها المتمركز حول الجامع الأموي ونصحت بتسهيل المواصلات إلى هذه المنطقة السياحيّة منها والتجاريّة وإن تطلّب هذا تدمير النسيج العمراني اللصيق بالسور (كما حلّ بسوق ساروجا مثلاً). تضمّنت الخطّة أيضاً توصيات لتوسيع الغوطة وتشجير قاسيون (من الملفت للنظر هنا الاتجاه للبناء السكني والتجاري-الصناعي على الأراضي الأكثر خصوبة وتشجير وزراعة الأراضي المحيطة الأقلّ ماءً وبالتالي عطاءً).
صدر قرار بمنع الهدم داخل أسوار المدينة عام ١٩٧٢ وتلاه وضعها على قائمة اليونسكو وتأسيس جمعيّة أصدقاء دمشق وهلمّجرّا ومع الأسف كانت الأحداث ولا زالت تستبق هذه الخطوات الإيجابيّة والتي أتت دوماً متأخّرة بسنوات عن زمن استحقاقها وفشلت في التنبؤ بالتحدّي المنتظر من الضغط الديموغرافي أو على الأقلّ في استنباط وسائل فعّالة لمجابهته وعلاجه وآليّات تطبيق هذه الوسائل.
أخيرأً مشكلة دمشق وسوريا هي مشكلة العالم بأسره. كان عدد سكّان سوريا في بداية عهد الوحدة حوالي ٤ مليون واليوم يزيد عن ٢٠ مليون بينما زاد عدد سكّان الأرض من ٣ بليون عام ١٩٦٠ إلى أكثر من ٧ بليون اليوم ومن المتوقّع أن يتجاوز ٩ بليون في منتصف القرن الواحد والعشرين ومعظم هذه الزيادة أتت في بلاد محدودة الموارد (الماء أحد أهمّ هذه الموارد). أصف إلى ذلك أنّ استهلاك الفرد فقيراً كان أم غنيّاً زاد إلى حدّ كبير. ننظر الآن لأمور كالماء اليومي للطبخ والاستحمام والكهرباء للإنارة وتشغيل مختلف الأدوات المنزليّة والمهنيّة والمواصلات وتدفئة البيوت كبديهيّات وما كان الأمر كذلك في الماضي. عن نفسي فقد نشأت في بيت لا يعرف التدفئة المركزيّة وأعلم أنّ جدّي وجدّتي كانا يعتمدان المنقل للتدفئة في وقت كانت صوبيا الحطب تعتبر فيه ترفاً أمّا إذا عدنا أربعة أجيال إلى الوراء فكان الضوء هو نور الشمس في النهار والقناديل والفوانيس ليلاً واحتاج المرء وقتها إلى مقدار لا بأس به من الجرأة ليخرج من بيته تحت جنح الظلام.
المراجع:
https://archnet.org/media_contents/92971
http://www.academia.edu/29210166/Michel_Ecochard_-_le_plan_directeur_de_Damas_1966_25.5.2015_.pdf
https://www.amazon.com/Damas-Ottomans-Collection-Comprendre-Orient/dp/2738423086
Part of the significant destruction of old Damascus houses have happened during the mid 70's and beyond when a wife of a Syrian foreign minister and her "business friends and profiteers"
ReplyDeletemade huge investments by that destruction.. A little known or talked about details!!
Would you please share their names
DeleteDo you mean Khaddam's wife?
Delete