انصبّ اهتمام المؤرّخين عبر العصور على الغزوات والفتوحات وتمجيد المنتصرين أمّا تاريخ الحضارة وإبداع الإنسان الفكري والفنّي وتطوّر المجتمعات فتلقّت إلى أمد قريب نسبيّاً اهتماماً أقلّ بكثير. للإنصاف أدرج ابن صصرى في "الدرّة المضيئة" الكثير من المعلومات عن الحياة اليوميّة والأمور المعيشيّة ومع ذلك بقي تركيزه على العمليّات العسكريّة وما رافقها من الكرّ والفرّ وسفك الدماء إلى درجة يضيع فيها القارئ في متاهات صراع دمويّ على السلطة بين أشخاص يقتصر خلافهم الجوهريّ في نهاية المطاف على الزعامة ومن أحقّ بها. انتهى هذا الصراع بانتصار الظاهر برقوق وأسر وذبح المتمرّد منطاش والطواف برأسه على حربة في دمشق (تمّوز ١٣٩٣) قبل إرساله إلى القاهرة ليعلّق على باب زويلة.
هناك مع ذلك بعض الفائدة في قراءة هذه التفاصيل المملّة للبعض والمثيرة بوحشيّتها (شأنها قي ذلك شأن الكثير من أفلام هاليوود الحديثة) للبعض الآخر. تتمثّل هذه الفائدة في التعرّف على الطبوغرافيا التاريخيّة لمنطقة دمشق. بالنسبة لسوريا ككلّ لا يزال كتاب الفرنسي René Dussaud (الرابط أدناه) الصادر عام ١٩٢٧ أفضل مرجع عن هذا الموضوع ويعتمد إلى درجة كبيرة على مصادر التاريخ العسكري وما ورد فيها من الطرق التي سلكتها الجيوش والمواقع المحصّنة وما إلى ذلك.
اعتبر Jean Sauvaget موقع دمشق ضعيفاً من الناحية السوقيّة (الاستراتيحيّة) لأكثر من سبب: تقع المدينة في سهل منبسط يصعب الاحتماء بتضاريسه وتعتمد على مياه بردى التي يمكن للأعداء قطعها (تماماً كما فعل الظاهر برقوق عندما قطع مياه بانياس والقنوات عن الأهالي عام ١٣٨٩). دمشق بالتالي تحتاج إلى جيش قوي وأسوار منيعة لحمايتها تستعيض بها عن وعورة المناطق الجبليّة (لبنان مثلاً) والأنهار الكبرى (كالنيل) التي تعذّر على الغزاة قطعها بتقنيّة الماضي.
فلننظر إلى بعض المواقع في محيط المدينة المباشر على سبيل المثال ومن الأقرب إلى الأبعد كما يلي:
جسر الزلابيّة: مذكور في أكثر من مكان في ابن صصرى وعليه جرى صلب وتوسيط (أي شطر الجسم إلى نصفين من الخصر) بعض الأمراء بينما كان برقوق يمتّع نظره بالمشهد من الطارمة (في القلعة). عرفت منطقة هذا الجسر لاحقاً باسم الزرابليّة.
جامع یلبغا: قصف من القلعة (تحديداً من "برج الكبش") في فتنة منطاش (عام ١٣٩١).
جامع تنكز: احترق مع حكر السمّاق أيضاً عام ١٣٩١.
جسر البطّ: الصالحيّة على نهر يزيد.
قبّة السيّار: جرى تحتها تسمير (صلب) ابن الحنش (منافس لمنطاش شقّ عصا الطاعة في قلعة بعلبك) ورهط من أنصاره "وطلعت الناس إليهم يتفرّحوا عليهم".
قبّة يلبغا: حوالي خمسة كيلومترات جنوب المدينة (منطقة القدم حاليّاً) ويقابلها في الشمال مصطبة السلطان في القابون. كانت القبّة والمصطبة بمثابة مكان ينزل فيه الملوك والسلاطين خلال ترحالهم.
جبّة عسّال: القلمون.
شقحب: شهدت أكثر من معركة بين جماعة منطاش وبرقوق. يشار إلى شقحب في المصادر التاريخيّة أيضاً تحت تسمية مرج الصفّر. الموقع ٢٧ كيلومتر جنوب دمشق (دمشق-الكسوة-خان دنّون-شقحب). شهد مرج الصفّر عبر التاريخ الأحداث الآتية:
-مواجهة بين خالد بن الوليد من جهة والغساسنة والبيزنطييّن من جهة ثانية (٦٣٤-٦٣٥ للميلاد).
-انتصار غير حاسم للصليبييّن على ظهير الدين طغتكين (١١٢٦ للميلاد).
-هزيمة المغول على يد المماليك في الثاني والعشرين من نيسان ١٣٠٣.
-أخيراً انتصار برقوق على عسكر الشام المتمرّدين ١٣٩٠.
مرج راهط: انتصار مروان بن الحكم واليمانيّة على الضحّاك بن قيس (قيسيّة) الذي بايع ابن الزبير عام ٦٨٤ للميلاد. امتداد الغوطة الشرقيّة (المرج) قرب عدرا.
خان لاجين: خان عيّاش وتمّ التعرّض إليه في مكان آخر (الرابط أدناه).
وصفي زكريّا. المروج الاستراتيجيّة المنسيّة في التواريخ العربيّة. الحوليّات الأثريّة السوريّة ١٩٥٣.
صلاح الدين المنجّد. معجم بني أميّة ١٩٧٠.
الدرّة المضيئة في الدولة الظاهريّة
ابن صصرى ومخطوط الدرّة المضيئة في الدولة الظاهريّة
René Dussaud. Topographie historique de la Syrie antique et médiévale.
Jean Sauvaget. Esquisse d'une histoire de la ville de Damas. Paris: Librairie orientaliste Paul Geuthner, 1935.
No comments:
Post a Comment