Friday, May 7, 2021

ليلة القدر تشرين أوّل - أكتوبر ١٩٧٣



الرئيس المؤمن وعبور قناة السويس 

طغت ملحمة الحرب التي بدأت في السادس من تشرين أوّل (أكتوبر) عام ١٩٧٣ على القصص الاعتياديّة في مجلّة سمير وعددها الصادر في الحادي والعشرين من ذلك الشهر لذلك العام. 


من البدهي أنّ أوّل ما يلفت النظر في أي مجلّة هو غلافها وهو في هذه الحالة يميل إلى التديّن أكثر ممّا كان مألوفاً حتّى أواخر الستّينات على الأقلّ في هذه المجلّة التي استعارت بغزارة من المنشورات المصوّرة الأمريكيّة والأوروبيّة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر. 


لا شكّ أنّ حرب أكتوبر (تشرين) ألهبت عواطف شعوب الشرق الأدنى ولا جدال أنّ مآثر عبور القوّات المسلّحة المصريّة قناة السويس وتحرير مرصد جبل الشيخ على يد الوحدات الخاصّة للجيش السوري (ولو إلى حين) كانت أحداثاً استثنائيّةً في تاريخ العرب الحديث الذي أشار إليه إمام المصلّين (سمير) في عبارة "النصر الدائم للعرب أجمعين". 





نأتي الآن إلى الصفحة المعنونة "البطل" التي نقرأ في أسطرها "المقاتل المناضل الزعيم المؤمن أنور السادات فقد زرع فينا الأمل وفجّر كلّ طاقات شعب مصر....". 


لا تقتصر عبارات طنّانة في مديح الزعماء وتمجيدهم لا على مصر ولا السادات فهي بكل بساطة متواترة في الشرق الأدنى منذ ألوف السنين كما تشهد الكثير من النقوش الكتابيّة بعدّة لغات قبل وبعد الفتح الإسلامي ولأشخاص أقلّ أهميّة بكثير من الرؤساء بله رؤساء مصر واجهة العالم العربي آنذاك.   


الجديد هو التركيز على إيمان الرئيس أنور السادات.. "الرئيس المؤمن" كما درج التعبير وقتها. مرّة ثانية المجاهرة بالإيمان بحّد ذاتها ليست بدعةً ومن السهل التأكّد ممّا أقول لأي متابع للانتخابات الأمريكيّة التي يطمئن بها المرشّح تلو المرشّح جماهير الناخبين على تديّنه وتقواه وورعه ومواظبته على الكنائس وإيمانه المطلق بالكتاب المقدّس وغرامه الذي يعجز عنه الوصف بزوجه وإخلاصه لها وحبّه لأسرته وأولوية "القيم العائليّة" لديه إلى آخر المألكة. 


أضف إلى ذلك أنّ جمال عبد الناصر عينه (ورغم حربه ضدّ الإخوان المسلمين) شدّد على إسلامه بدلالة الكثير من الصور التي نراه فيها تارة في ثياب الإحرام مؤدّياً شعائر الحجّ وطوراً ساجداً أثناء ممارسته طقوس الصلاة. 


نأتي الآن إلى الفروقات: 


عبد الناصر - كما كتب في "فلسفة الثورة" الصادر عام ١٩٥٣ - أعطى مصر دوراً يتجاوز هويّتها الدينيّة حدّده في ثلاث دوائر: عربيّة وإفريقيّة وإسلاميّة. يمكن أيضاً أن نضيف دول عدم الانحياز التي تزعّمها عبد الناصر والزعيم الهندي جواهر لال نهرو وقائد المأسوف عليها يوغوسلافيا يوسيب بروز تيتو  وأخيراً ما أسماه حزب البعث "المنظومة الاشتراكيّة". من نافل القول أنّ الهويّة المصريّة راسخة عمرها آلاف السنين مهما مرّر عليها من مدّ وجزر وأنّها سابقة للإسلام والمسيحيّة واليهوديّة. مصر أقدم دولة في الشرق الأدنى بفضل ظروف جغرافيّة خاصّة تميّزها عن جيرانها أجمعين وليست بحاجة إلى "البحث عن الذات" (عنوان كتاب الرئيس السادات وعلّ ترجمته إلى الإنجليزيّة In Search of Identity أو البحث عن هويّة يعطي فكرة أكثر أمانة عن المقصود).  


إذاً الإسلام كان أحد أوجه مصر عبد الناصر وليس مصر برمّتها أمّا مصر السادات فقد ازداد تديّنها عاماً بعد عام (لربّما في محاولة ممنهجة لاحتواء اليسار المصري) وأكثر بكثير ممّا قدّره "الرئيس المؤمن" الذي قدّر ليد المنون أن تخترمه على يد أحد الإسلامييّن. أتدارك فأقول أنّ عقد السبعينات شهد بوادر صعود الإسلام السياسي عبر الشرقين الأدنى والأوسط وليس في مصر وحدها وفي أمثلة إيران وباكستان وأفغانستان أكثر من الكفاية. حتّى السعوديّة الوهّابيّة اكتشفت بالنتيجة أنّ هناك من يبزّها تديّناً وتزمّتاً وكثير من هؤلاء - على عكس أثرياء الأسرة المالكة - مستعدّون للموت في سبيل ما يؤمنون به حقّاً وعدلاً دون تردّد أو تذمّر. 





عودة على مصر. تخيّل كثيرون في البداية أنّ عهد السادات ما كان - بشكل أو بآخر - إلّا استمراراً لعهد عبد الناصر بيد أنّ الأحداث أثبتت وبسرعة عكس ذلك تماماً: حلّ "القلب المفتوح والفكر المفتوح" وحتّى الاقتصاد المفتوح محلّ الاشتراكيّة وتحوّل الاتّحاد السوفييتي الذي سلّح مصر وجعل عبور القناة ممكناً من صديق إلى عدوّ وإسرائيل من عدوّ إلى صديق ولا زلت أذكر استعمال الرئيس السادات لتعبير "صديقي بيغن" - على الأقلّ في وسائل الإعلام الأجنبيّة بالإنجليزيّة - تحبّباً في رئيس وزراء إسرائيل وتزلّفاً للولايات المتّحدة الأمريكيّة وانقلبت علمانيّة عبد الناصر النسبيّة إلى تديّن لم تعرفه مصر - على المستوى الرسمي على الأقلّ - حتّى تحت أسرة محمّد علي (حارب الملك فاروق الإخوان المسلمين تماماً كما فعل عبد الناصر) وهكذا دواليك. 


كل ليلة قدر وأنتم بخير

No comments:

Post a Comment