أتابع اليوم استعراض المصادر التاريخيّة عن جامع بني أميّة الكبير من الأحدث (روايات المؤرّخين وعلى رأسهم ابن عساكر ومن ثمّ النقش الكتابي التأسيسي في هذه الروايات) إلى الأقدم. أنقل هنا باختصار عن العلّامة Henri Lammens الذي لفت نظره شعر الفرزدق (٦٤١-٧٢٨) في مديح الوليد بن عبد الملك وخصوصاً الأبيات الثلاث الآتية:
فرّقت بين النصارى في كنائسهم والعابدين مع الأسحار والعتم
وهم معاً في مصلّاهم وأوجههم شتّى إذا سجدوا لله والصنم
فهمّك الله تحويلاً لبيعتهم عن مسجد يتلى فيه طيّب الكلم
نأتي إلى الشرح:
البيت الأوّل: فرّقت (الفرزدق مخاطباً الوليد) بين المسيحييّن العابدين في كنائسهم وبين المصلّين صباحاً ومساءً (أي المسلمين).
البيت الثاني: المسلمون والمسيحيّون معاً في مصلّاهم مع الفرق أنّ الأوائل ساجدون لله بينما يسجد النصارى للأصنام.
البيت الثالث: ألهمك الله (أيّها الخليفة) أن تبعد كنيسة المسيح عن المسجد الذي يتلى فيه طيّب الكلام.
اعتبر Lammens هذا الشعر دليلاً إضافيّاً (لكتابة Arculfe اللاتينيّة في القرن السابع) على أنّ جامع الصحابة وقصّة مشاركة الكنيسة بين المسيحييّن والمسلمين أسطورة بينما في الحقيقة بنى المسلمون مسجداً متواضعاً واحتفظ المسيحيّون بالكاتدرائيّة العظيمة بكاملها إلى أن أخذها منهم الوليد أمّا عن كلمة "مصلّاهم" بالمفرد في البيت الثاني ففسّرها العالم البلجيكي بمستلزمات النظم والقافية وهذه الضرورات هي التي فرضت على الفرزدق في البيت الأوّل أن يحذف كلمة "المصلّين" بعد النصارى ولو لم يفعل لاختلّ الوزن كما نرى:
فرّقت بين النصارى المصلّين في كنائسهم والعابدين مع الأسحار والعتم
استنتج Lammens أنّ مسجد المسلمين وكنيسة المسحييّن كانا متجاورين contigu وليس متلاصقين continu في بناء واحد.
ليس من السهل الاعتراض على تحليل Lammens من الناحية اللغوية وهو بالتأكيد أدرى بخبايا اللغة العربيّة منّي بكثير ولكن هناك إشكالات تاريخيّة عماريّة في تسلسل أفكاره ومنها أنّه سلّم ضمناً بأنّ كنيسة يوحنّا احتلّت كامل معبد المشتري الداخلي temenos الذي يطابق على وجه التقريب الجامع الأموي حاليّاً ( ١٥١٣٢ متر مربّع) وهذا بعيد الاحتمال إذ من المشكوك فيه تواجد كنائس في هذه الضخامة في ذلك العهد ومن غير المنطقي أن تكون كنيسة دمشق هي الأكبر في العالم (للمقارنة مساحة آيا صوفيا في القسطنطينيّة ٧٩٦٠ متر مربّع ومساحة كاتدرائيّة القدّيس بطرس الحاليّة في روما ١٥١٦٠ متر مربّع أي أنّها تعادل الجامع الأموي بينما بالكاد تتجاوز رائعة Justinian نصفه). بالمقابل المعابد الوثنيّة الهائلة الاتّساع معروفة في الشرق الأدنى القديم كما في أمثلة دمشق والقدس وبعلبك وتدمر.
التحفّظ الثاني أنّ Lammens اعتبر - دون دليل مقنع - أنّ المجاز المعترض أو القاطع transept بيزنطي وأنّ إنجاز الوليد تلخّص في رفع قبّة فوقه. هذا الرأي مرفوض في ضوء الدراسات الحديثة والغالبيّة العظمى من الأخصّائييّن اليوم تعتبر هذا المجاز أمويّاً شأنه كشأن الجامع وإن استعمل بناته جدران المعبد القديم وأعمدته.
سواءً قبلنا بتفسير Lammens لشعر الفرزدق أم لا يبقى هذا الشعر وثيقة لا تقدّر بثمن عن تاريخ الجامع (أو مسجد الصحابة إذا شئنا) وأقدم بكثير من أي كتابة لدى المؤرّخين وبرهاناً ساطعاً أنّ "الشعر ديوان العرب" (الديوان هنا بمعنى الأرشيف).
مع كلّ هذا لم يكن الفرزدق أقدم من ذكر الجامع في شعره كما سنرى غداً إن شاء الله.
تعود الصورة الملحقة عن Herzfeld إلى العقد الأوّل أو الثاني للقرن العشرين ونرى فيها الباب الغربي للأموي من الصحن (أي اللقطة من الشرق إلى الغرب).
معبد دمشق من كنيسة يوحنّا المعمدان إلى جامع بني أميّة الكبير
مسجد الصحابة: حقيقة أم أسطورة؟
تقسيم كاتدرائيّة القدّيس يوحنّا في الكتابات التاريخيّة
جامع بني أميّة الكبير: الكتابة التأسيسيّة المفقودة
Ernst Herzfeld. Great Mosque, Western Gate: View from Courtyard
No comments:
Post a Comment